القصّة القصيرة

رجل من زمن الرجال، بقلم: فاطمة عبدالجليل باريش، “قصة قصيرة”

فاطمة عبد الجليل باريش

سوريا

قصة

“رجل من زمن الرجال”

 

ولأن فاقد الشيء يسرف في إعطائه كان جدي أمّاً لمن لا أم له، رؤوفاً رحيماً بسيطاً..

….

كانت البداية حينما اغرورقت عينا جدّي بالدّموع، هذه المرة الأولى التي يتحدّث بها عن أمّه وكأنّه مفارقها البارحة..

كثيراً ما كان يخطر لي أن أسأله عنها، لكنّني لم أكن أجرؤ على العبث بجراحاته التي كنت أراها كلما نظرت إليه،

لذا لم أتطرق يوماً أن أسأله عن طفولته، وكثيراً ما لمست حزناً عميقاً يدلف مع لمعة عينيه الجميلتين ..

 

استجمعتُ قواي وسألته بنبرة صوت ثابتة غلبتها ابتسامة خجل صغيرة..

كم كان عمرك حينما توفيت والدتك؟

أجابني بعد أن حاول إقامة عملية حسابية صغيرة يتهرب بها ريثما يبتلع غصة قلبه: توفيت في الستينات، كنت صغيراً وقتها، علمتني صنع العجين، وكان حبّاً عظيما يقطر من عيونها حينما أعجن لها..

كنت عجّاناً بارعاً، وكانساً نظيفاً، ومساعدها الأول بجلّ أعمالها، كنت يدها التي توّكها الجور والزمان، وكانت حينما تُسأل عن أعزّ أبنائها تقول بكل حب “أحمد”..

كانت رهبة أن أسمع جدي يُنادى “بأحمد”..جدي الذي لطالما اعتقدت في طفولتي أنّه مذ ولد “جدّاً”..

إقرأ أيضا:طيفُ أيمن أبتلع عقل صديقتي بقلم:الاء علي ماضي

ويكمل قائلا: وقبل أن أشبع من حنانها رحلت وتركت أثر حبّها بقلبي كشيء غريب عن باقي الأشياء القاسية التي تخللت له..

حدقت إليه بحزن وفكرت، أي حبّ هذا الذي يدفع رجلا تجاوز الخامسة والسبعين أن يتكلّم عن أمه وكأنها فقيدة البارحة، أي حنين وأي مشاعر تلك التي تدفع رجلاً شاب رأسه وقُصم ظهرة وتنخّرت عظامه أن تدمع عيناه في حين فقط أنه تذكر أمّه!!!

سألته أبكيتّ؟؟

لا..لم أبك أبداً..

في البداية انتابتني الصدمة وصحوت بعد أيام على مشنقة الشوق وبراكين الدموع..

قاسيت بعد وفاتها من التشتت وجور الأيام ما قاسيت، وكنت أضع في جعبتي رغيف خبز وبصلة وأهرب إلى أرض “المعلوسة” أجلس قرب المغارة التي كانت تشتهر بامتلائها بالجن أحضر لدراسة الشهادة الإعدادية، وحين يشتد بي الشوق، أرمي جميع كتبي جانباً وأبكي، أعلمت سبب حبي لتلك الأرض؟؟ لأنها حضنت جميع دموعي واحتوت كسري ..

ويقول:

أكملت تعليمي هكذا..وحيداً بين أشجار “المعلوسة” وبعض يقطينها وجبسها الذي كنت أزرعه وأسقيه بيدي لا صاحب لدي سوى بصلتي الصغيرة ورغيف الخبز المتشقق..

وكنت لا أعود للمنزل إلا عند النوم..

أنجحت؟؟؟!!

نعم نجحت..

ودرست مرحلة الثانوية ونجحت أيضاً ..

سجّلت بكلية العلوم الإقتصاديّة..وعُيِّنتُ مُدرّساً ..

إقرأ أيضا:جريمة عادلة، بقلم : علا عبد الكريم عبد الحليم، “قصة قصيرة”

ويستكمل حديثه..

تزوجت صغيراً لأعوض فقد أمي، وكنت أعمل من شروق الشّمس حتى غروبها..

أُدرّس في المدرسة صباحاً، ثم أعود للغرفة الطينية الصغيرة ظهراً لأتناول طعاماً بسيطا ممّا حضّرته جدّتك وأخرج بعدها بزي عامل الإسمنت إلى أن ينتهي اليوم..

أعملت بالإسمنت؟!!

بل وكنت حرفياً في صنع المثلجات أو كما يقال لها بالعامية ” الضنضرمة” وعملت بهذه المصلحة لأعوام، حفرت الآبار وعملت بالزراعة كنت أزرع وأحصد وأسقي وأغربل الأرض من الأحجار وكنت كثيراً ما أنام مفترشاً الأرض ملتحفاً السماء من فرط تعبي..

عملت كبائع سمان وسافرت عدة مرات، كدحت ليل نهار لأربي أطفالي العشرة على لقمة حلال ليّنة هنيّة، ولأكمل تجهيز بعض أساسيات منزلي الصغير..الذي ظل عشرون عاماً حتى صار كما هو عليه الآن..

وفي بداية الكهولة صرت أجدني كلما تهت في مسجد عائشة، عملت به كمؤذن أيضاً، ذلك المسجد الذي له من قلبي الكثير..كأرض المعلوسة، وكبيت الشقاء الصغير..

كل تلك الذكريات حفرت في قلبي أثراً عميقاً لا يمكن نسيانه وقلبي الصغير ذاك بقي هناك يوم خرجت مودعاً بيتي وأرضي ومسجدي..

مودعاً زرعاتي الصغيرات المؤنسات

يوم أخرجتني الحرب مضطراً على الهجرة تاركاً قلبي وروحي وكل ذكرياتي الصغيرة .

?#فاطمة_باريش

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
مغريات الدنيا، بقلم: تبارك مكي، ” قصة قصيرة”
التالي
وما ذنبها، بقلم: رؤى طه الديرباني، “نص نثري”

اترك تعليقاً