مقالات ونصوص متنوعة

الصندوق الأسود، بقلم : أحمد عز الدين علي

حدثَ كل شيء بعد ما إستيقظتُ مفزوعاً من كابوس زعزع كياني، لم أستطع تذكّرَ مجريات أحداثه، صرخت عالياً وأنا أقول: دعوني وشأني لا أريد منكم شيئاً لا أريد لطفكم وعطفكم، ولا حنيّتكم وطيبتكم، لا أريد إهتمامكم، أريد أن أكون بمفردي، فأنا دائما بمفردي، وسأبقي بمفردي،  لا يهمني أمركم لا يهمني نفاقكم وتلوّنكم أمامي، أريد أن أبقي في عالمي أتخبّط في جحيمي الخاص وأنا أقهقه من شدة الفرح، أن أغطِس في أعماق مخيّلتي مصارعاً وحوشاً صنعتُها بيديّ والسعادة تغمرني، أنْ أسقطَ في بئرٍ مُظلم لا قاع له وأنا غيرُ مبالٍ بأيّ شيء سيحدثُ لي، لا يهمني بتاتاً إِن إحترق كل شيء، سأبقى مجرد طيف أتجول في الأرجاء باحثاً عن اللاشيء، تدفق الغضب في دمي تغيرتْ ملامحي نبتتْ المخالبُ في أصابعي، وبرزت أنيابٌ طويلةٌ من فمي، تحوّلتُ إلى أسوء ما كان يختبئ في داخلي، ذاك الكابوس المرعب الذي يلاحقني في أحلامي أصبح أنا،  وأنا أصبحت أطارد أرواح من أذوني وسببوا جراحي، لن أرأف بهم سأكون كظلهم سألاحقهم في أحلامهم، سأصبح الفزاعة الواقفة في حدائق منازلهم، سأكون “البعبع” الذي يخرج من تحت أَسِرّتهم، سأكون الشريرَ في قصصِ الخيال السعيدة التي يقصّونها على أطفالهم ليلاً قبل النوم، سأكون زلزالاً تحت أقدامهم، أعاصيراً عاتية إن لزم الأمر في سبيل بثِ الرعب في حياتهم، وزعزعةِ أمْنِهم وإستقرارهم، أنا لم أُرِدْ أنْ أكونَ هكذا، هم من دفعوا بي إلي حافة الانهيار، و تركوا آثار الندبات علي جسدي بعد أن نزفتُ دمائي كلها وبقيَ السواد والظلام في شراييني، أصبحت أتغذى على مخاوفهم، مستمتعاً بطعم دموعهم، راقصاً على أوتارِ نغماتِ بُؤسهم وأنينهم،  وبعد كل شيءٍ أصبحتُ الصيّادَ وهم الفريسة!  أنا الذئب الشرير في القصة، أنا المخطئ، أنا الظالم والطاغي، هم أبرياء نعم هم ضحايا، الكل يرى من زاوية أخرى ولا أحد يريد سماع الرواية الحقيقية للقصة، يريدون أن يسمعوا مايحبون أن يسمعوا فقط، هاتفين وصارخين:” لا نريد سماع الحقيقة نريد الكذب والبهتان نريد التشويق والإثارة فلتذهب الحقيقة إلى الجحيم” .. وقفت في الساحة لأخاطبهم، تنحنحتُ قليلاً حتى يصمتَ الجميع، عمّ الهدوء، قلت لهم :  أخاطبكم الآن بخطاباتي التي لا تخضع لأي قوانين ولا أي أسس أو أي قواعد ثابتة، أخاطبكم بأحرفي المكتوبة في ظلمة ليلٍ حالكٍ تحت سقفِ غرفتي المهجورة، كتاباتي التي تسبحُ في مفكرتي كمركبة فضائية، تشقّ طريقها في الفضاء الشاسع بين المجرات والكواكب بلا ربان يقودها ولا وجهةٍ محددةٍ تصلُ إليها، كأنغامٍ صاخبةٍ عاليةٍ لحفلة موسيقية نُظّمَتْ من أجل دعم الصمّ والبكم، كأعمى يحدثونه بلغة الإشارات .. أنا هنا أخاطب نفسي فقط!  لا أحد، نعم لا أحد سيصغي لأحمق مثلي، لا أحد ستهمه خطاباتي، حتى أنا لا تهمّني، ولا أظنها ستهمني يوماً،  هناك تحت سريري مكانها داخل صندوقي الأسود المغلق بإحكام، مكانها هناك بجانب محاولاتي الفاشلة التي لم ترَ النور أبداً، كالكتبِ المحرمة التي لم يقرأها أحد، دفنتها هناك تحت رأسي، أسمع همسات كلماتي المبعثرة، أسمع نواح أحرفي الجريحة، ليس باليد حيلة سوى أن أضعَ في أذنيّ قِطعاً من القطن حتى لا أنجرف وراء عواطفي وأقوم بفعل أندم حسراً على عواقبه الوخيمة، هناك تحت أنقاض الظلام الدامس، تتغذى كتاباتي المنسيّة والمعزولة عن العالم الخارجي على الحقد والكراهية، تكبر يوما بعد يوم، نعم أشعرُ بأنّ صندوقي لن يستوعب أكثر من هذا، سينفجر من شدة هول ما وقع عليه، وسيخرج ذلك الوحش الذي صنعتُه بحطام الفوضى الرهيبة والعارمة التي كانت تسكن داخل جدران عقلي، سيخرج الوحش النائم الجائع باحثاً عن وليمةٍ دسمةٍ يسدّ بها جوعه، لاشيء يستطيع إيقافه، لينتشر بسرعة في الأرجاء كالنار في الهشيم، منقضاً على كل كُتبي ومفكّراتي وأثاث غرفتي وسريري وحتى صندوقي الأسود الذي كان  يوماً ما صديقه المقرب، ليصيح صيحة عالية حتى إنشق سقف غرفتي المهترء على رأسي، وقفتُ لأرى ضخامة هذا الوحش الهائل، همست بصوت رقيق ممزوج بنبرة خوف وحذر، قلت له أنا آسفٌ على ما فعلتْ، لم يعرني أي إنتباه ليخرجَ محلقاً إلى السماء مرفرفاً بجناحين ملتهبين متجهاً إلى العالم الخارجي، العالم الذي لطالما كنت أُبعده عنه، ليبدأ عصر جديد من الخوف والذل، حيث لا سيد ولا حاكم سوى صفحات سوداء ممزّقة مكتوب فيها أسوء السيناريوات، مختوم أسفلها بتاريخ ومكان وفاتي .

إقرأ أيضا:نص نثري بقلم وعد الحسين

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
فوضى مشاعر، بقلم : رهف محمد عثمان
التالي
ذاهب إلى اللامكان، بقلم : أحمد بشار قبيس

اترك تعليقاً