مقالات ونصوص متنوعة

الوحدة الموحشة ، بقلم : أماني مروان الآوا

الوحدةُ الموحشة
 بعيدًا عن لَّجب الأفكارِ ومتاهاتِ الحياة، قصدّتُ الحديقةَ لأُرفه عن نفسّي قليلًا وأتأمّلُ السّماء الصافيةَ وسحرَ الطّبيعةِ الخضراء، جَلستْ بقربي امرأةٌ ربَّما قدْ تجاوزتْ الستين من العمر، بدا في نَظراتُها حزنٌ عميقٌ وخُطّتْ على يديّها تَجاعيدُ السنين، كانتْ تراقبُ لعبَ الأطفالٍ والدَّمعُ من عينيها منهمرٌ ، استوقفني شّجنها المؤثرُ فأعطيتها منديلًا وقلتُ لها مابالكِ ياخالة؟ قالت لي بغصّة الحزنِ وتنهيدةِ الهمِّ  يابنيتي إنَّها وحدةُ العمرِ، كانُ المنزلُ مليئًا بأولادي وزوجي واليوم أصبح باردًا أبكمًا خاليًا من وجوه أعزّ ماعندي، أولادي الثلاثة تشتتوا في بلاد المهجرِ، وزوجي توفي منذُ أربع سنين، وتركني وحدي أعاني الضجَّر وكآبةَ المللِ، أستيقظُ كلَّ صباحٍ ولا أسمعُ صوت أحدٍ منهم بعدَ أن كان المكان يضجُّ بأصواتهم وحركاتهم التي تضّفي لمسةً ليومي بلونٍ مشرقٍ، لتبتسم لي الدُّنيا مع بزوغِ خيوطِ الشمسِّ،  ومنذُ أربع سنين أرتشفُ قهوة الصباحِ وحدي ، ويرافقني في صدَّى الصمتِ صوت عصافيرِ حفيدي الصغير تؤنسُ وحدتي و تذكّري به، فأقومُ بتثاقلِ جسمي المنهكِ، لأقومَ بأعمالِ المنزل التي أصبحت روتينًا  كئيبًا مضنيًا، فلمن أرتبُ؟ ولمن أطهو؟ لنفسي التي باتتْ تشعر بجمِّ السأمِ والنَّزقِ، أماكن جلوسهم حول مائدة الإفطار أصبحت خاليةً تحتفظُ ذاكرتي بخيال جلوسهم معي، أعانقُ صورهم من ذكرياتِ ألبوم الماضي التَّليد، أسمع صوتهم من خلف شاشة الهاتف الخلوي لاتروي ظمأ فرطّ الحنين، أشيائهم مازالتْ في أماكنها تحادثني وأشتمُّ عبقهم فيها ، دقاتُ عقاربِ الساعةِ تسودُ صمّت المكان الموحشِ وتطرقُ كمطرقةٍ على أبوابِ مسمعي وتخترقُ رأسي المثقلِ،  تسير الثواني ببطءٍ بإنتظارِ المجهولِ، تشوهُ حياتي بثغراتٍ لا تُرقعها أيامُ وحدتي المهترئة،  ماذا أقول لكِ يابنيتي أصبحتُ لا أرى سوى الجدران وسقف المنزل وكأنهُ سيطبقُ على أنفاسي المتبقيةِ بضجرهِ مني كما زهقتْ روحي من جسدي، وحدتي جعلتني في وصبِّ ينهش مابقي من عمري، أنا سجينةٌ بعالمي وأسيرةٌ بتشتت أفكاري التي تمزقتْ بالغياب، هذا حالي وحال العمر معي أشكو همّي للّه، آتي للحديقة كلّ أسبوعٍ لأَلتمسَ روحي الضائعةَ التي هجرتني مع أولادي ورفيق عمري، فتلوحُ لي بشغبِ الصغار ذكرياتي القديمة مع فلذاتِ كبدي، أنا أسيرُ بجسدٍ يتحركُ ومشاعري كلّها رحلتْ إلى بلادِ الهجرانِ، وكأنّي عبءٌ ثقيلٌ على روحي وأنتظر أن تلفظني، أشغلُ نفسّي ولكنّي أعودُ لأسقطَ بدوامةِ الوحدةِ، عندما أعودُ للمنزلِ وأوصدُّ على نفسّي بابِ حجرتي فأصبحُ أسيرةَ الجدرانِ والذكرياتِ.
اعتصرَ قلبي عليها فوحدتها كانتْ وحدةً مطبقةً مجردةً من المعالمِ، كأنّها تعدُّ الساعاتِ وتنتظرُ رحيلها عن شؤمِ الوحدةِ.
سوريا

إقرأ أيضا:مُتمسكٌ بالحيـاة الجزء الثاني للكاتب يوسف الغنيمات

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
الحياة مرّة واحدة، بقلم رند عيسى مراشدة
التالي
كادَ أن يمضي، بقلم مريم خضر الدروبي

اترك تعليقاً