منوعات أدبية

عِش كي تَعِش، بقلم:زيلان يوسف، “قصة قصيرة

عِش كي تَعِش

لقد كنتُ في بداية مسيرتي في حياتي المهنية الاستقلالية، كنتُ متلهفاً لأبدأ العمل في عيادتي الخاصة بعد تحضيراتٍ طويلة.
لقد سار كلُّ شيء على نحو جيد في الأيام الأولى، كنت مستمتعاً بمساعدة الناس بمختلف الأعمار فهذا العمل الإنساني هو مشروعي في هذه الحياة هو ما أوتيت إلى الحياة لأجله ولأساعد مرضىً أعانني الله على شفائهم ولكن ليس دائماً نستطيع أن نساعد أو حتى أن نخفف الألم.
لن انسى أبداً في أسبوعي الأول من العمل زارتني مريضةٌ شابة كانت في العشرين من عمرها، كانت نحيلة للغاية ووجهها مصفراً ولكنها كانت مشرقة رغم التعب والألم اللذان كانا مرافقان لها، كانت مشرقة بابتسامتها وبحسها الفكاهي.
قالت لي: قبل أن أعرفكَ بنفسي كاسم أو عمر سأعرفكَ بنفسي من خلال معاناتي وألمي اللذان عجز الاطباء عن معرفة مصدره، لقد أجريتُ تحاليلاً كثيرة ولم يُعرَف السبب لقد زرت العديد من الاطباء من اختصاصات مختلفة: الأذنية والغدية والغذائية والداخلية..
أخذتْ نفساً عميقاً محاولةً إخفاء حزنها بابتسامةٍ دافئة حزينة وأكملتْ: نصحني آخِرُهُم بزيارة مختص عصبية، لا أعلم سبب جسمي الهزيل رغم شهيتي التي كانت وفقدتها يوما بعد يوم ولا أعلم سبب فقداني لها، احيانا لا استطيع ان اتوازن واحيانا أخرى أقع، يرافقني ألم بالرأس شبه دائم، نظرتْ إلى المنضدة حيث الماء وقاطعتْ حديثها قائلة: من بعد اذنك
مسكَتْ أبريق ماء كنتُ قد خصصتُه لمرضاي وملأتْ كوباً وشربَتْه دفعةً واحدة وتابعتْ : وأخيراً اسمي فرح عمري عشرون عاماً وملأَتْ كوباً آخر من الماء ولكن كان نصفه يصب خارج الكأس! لاحظتُ دهشتها ونظراتها المرتبكة الخائفة، وقفتُ وامسكتُ الابريق وأشرتُ بأن تهدأ حسناً لا مشكلة يا فرح، كنتُ أدركُ حينها أن ثمّة مشكلة فيما حدث الآن وإنها إشارة ربما لمؤشرٍ خطير.
واثناء الفحص السريري لم يكن كل شيء على ما يرام هناك مشكلةٌ في أعصاب يديها وعرفتُ سبب وقوعها، ضعفٌ بالتتبع النظري وفي حركة العين، وصعوباتٌ بدنية، لاحظتُ عيناها المنغمرتين بالدموع وكأنني آخر خيطٍ قد يربطها للحقيقة وراء تلك المعاناة، حاولت إخفاء قلقي حول الشكوك التي تراودني وابتسمتُ قائلاً : حسناً يا فرح لقد انتهينا, اريد منك بعض الفحوصات واختبارات دم بسيطة لأتأكد من سلامتك وسأكون بانتظارك غداً، ولكن أود أن أسألكِ من ماذا تخافين؟
أجابتني دون تردد: الظلام وأخبرتها: أطمئنِ لا ظلام في مرضك فأنتِ النور وانتظرك للمراجعة فرح، ابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت: شكراً لك، والآن عن إذنك.
راودتني الكثير من الأفكار والشكوك حول حالتها الصحية، حسناً النتائج غداّ ستقطع الشك باليقين.
في صباح اليوم التالي وردني أتصال من رقم مجهول :صباح الخير حضرة الطبيب أنا فرح أعتذر منك على إزعاجي في هذا الصباح ولكن ظهرتْ النتائج ولا استطيع أن انتظر أكثر أرجوك ألقِ نظرة عليها وطمأن قلبي إلى حين موعد المراجعة
أجبتها: اهلا فرح حسنا أرسلي لي النتائج إلى حين قدومي للعيادة وتوجهي للعيادة فأنا قادم (في الواقع كنت على استعجال اكثر منها في معرفة ما ينتظرها)
_حسناً سأرسل حالاً ولكن أرجوك لا تتأخر أنا أنتظر معرفة النتيجة بفارغ الصبر.
أغلقتْ الهاتف وأرسلتْ لي صورة عن النتائج لم تكن نتائجها مسرةً ولم تكن فرح بخيرٍ أبداً، وللأسف النتائج نفت الأسباب المشابهة للحالة التي أشك بها، خرجتُ من المنزل في عجلة متوجهاً لعيادتي رأيتها تمشي يميناً ويساراً تدعو الله أن يكون كل شيء على ما يرام
_ صباح الخير يا فرح
نظرتْ اليَّ دون حراكٍ او كلام وأومأت لي بعينيها الناعستان عن استفهامها عن حالتها
أخبرتها: كل شيء سيكون على ما يرام يا فرح وإن لم يكن كذلك فسنجعله على ما يرام.
دخلت إلى غرفة الفحص في العيادة وجلسنا كنتُ أفكر حول ما يجب أن أقوله لها إنها خائفة لا تبدو انها متفائلةٌ للغاية كيف سأخبرها حول شكوكي عن مرضٍ ربما لن تستطيع الترحاب به او تقبله
_كيف تشعرين نفسك اليوم يا فرح أظن أنك اليوم أفضل فوجنتاكِ محمرتان واظن ان طاقتك اليوم افضل وماذا عن الألم؟
أجابتني: لم استطع النوم بسبب قلقي حول النتائج وفي الواقع….. لا أشعر نفسي بخير للغاية …… حسناً حضرة الطبيب ربما أنا بخير ولكن بسبب قلقي الزائد أشعر نفسي لستُ بخير والألم لازلتُ أشعر به يتنقل في جسدي من مكانٍ لآخر ولكنه عادة يعود ليتربع في رأسي ما هو مرضي أرجوك أخبرني لا أطيق الانتظار
أجبتها بابتسامة لطيفة: لا تقلقي حول أي شيء يا فرح فكلُّ شيءٍ مدبرٌ لكِ من الله كانت لدي شكوكٌ حول بعض الأمراض ونتيجة التحاليل والحمد لله نفتها كلها ولكن أريد منك التوجه إلى مركز أشعة وإجراء رنين مغناطيسي وتصوير مقطعي فقط لأتأكد من سلامتك تماماً
ابتسمتْ اول ابتسامة تفاءُل رأيتها منها وقالت: حقاً؟ الحمد لله حسناً حالاً سأجري ما تطلبه حضرة الطبيب… وسكتَتْ لبرهة ونظرتْ في خوف إلي وماذا إن لم تكن نتائج مركز الاشعة جيدة؟
أومأت لها برأسي بالموافقة على ما تقوله وقلت: لا يهم مهما تكن النتيجة فهذا قضاء وقدر وانا متأكد أنك ستستطيعين التغلب على أي شيء قد يقدر لك.
بدأتْ ترمش عيناها عدة مراتٍ وتابعتْ وكيف سأستطيع التغلب على شيء ربما يكون أقوى مني او قادرٌ على إنهائي؟
أجبتها: ستكتشفين أنك قوية كثيراً وستنتصرين في النهاية وسأعطيكِ بعض الأسرار والمفاتيح للانتصار وأول مفتاح هو التقبل تقبلي مرضك مهما كان، مثلاً أخبريني ما أصعب لحظة مررت بها وكيف استطعتِ التغلب عليها او كيف تقبلتها؟
سكتتْ وبنظرة ثابتة ودون حراك وكأنها تحاول تذكر تفاصيل تكاد تنساها رفعتْ رأسها ونظرتْ إلي وقالت: قبل أربعة أعوام كنت في السادسة عشر من عمري جرى حريقٌ في منزلنا بسبب مشكلةٍ بالتيار الكهربائي وصُعِق والدي بالكهرباء وتوفى على إثرها احتضنتني امي وجعلتْ من جسدها درعاً لحمايتي وإخوتي وماتت بعد نقلها للمستشفى إثر إصابتها بحروقٍ بالغة لم استطع التقبل كنت صغيرة و لا أذكر الكثير من التفاصيل ولكنني حاولت جاهدةً أن أتناسى كل شيء لأهتم بإخوتي الصغار فكنت أكبرهم ولا بد لي من الاعتناء بهم.
نهضتُ من كرسيي وتوجَهتُ نحو النافذة لم أردها ان ترى تأثري سحبت نفساً عميقاً والتفتُ إليها وسألتها: إذا برأيك هل هناك ما هو أسوء من ما مررتِ به وتجاوزته وحتى انك قد تنسي ما كان حينها
ابتسمتْ ابتسامة خفيفة فخورةً بنفسها وحزينةً عليها بنفس الآن وأجابت: كلا، فلا أسوء من فقدان الطفل لوالديه ولا شيء أصعب من تربية طفل لطفلٍ آخر، أعتقد أنكَ على حق ومن الآن سأكون راضية عن المرض الذي قُدِرَ لي وسأتغلب عليه بالتأكيد شكراً لكَ يا حضرة الطبيب وأعذرني لقد اخذت الكثير من وقتك إلى اللقاء بعد أن اجري الفحوصات المطلوبة.
ابتسمت لها ابتسامة ترحاب حسناً يا فرح انا بانتظارك.
كنتُ آمل أن تكون شكوكي خاطئة وان تُنفى جميع الاسباب، أحاولُ منذ مجيئها لعيادتي أن ألمح لها عن مرضٍ قد تصاب به، أحاولُ جعلها تتفاءل وتتقبل مرضها، أحاولُ جاهداً أن أنقل حديثي عن مرضها لعقلها الباطن بشكل إيجابي لتتقبله دون إصابتها بأي حالات نفسية. لا استطيع توقع ردة فعلها او ان كانت مستعدة لسماعِ خبرِ مرضها. أتمنى أن يمر كل شيءٍ عل النحو الأفضل.
في تمام الساعة الرابعة من اليوم التالي أتَت إلى عيادتي تجهش بالبكاء كانت عيناها محمرتان لا تستطيع التحدث أعطتني الصور التي في يديها المرتجفتان.
حاولت أن أهدأ من روعها : أهدأي يا فرح ماذا جرى؟ لماذا كل هذا البكاء؟
حاولت إخباري بكلمات تكاد تكون غير مفهومة بنبرة حزينة منخفض الصوت أنّه ثمة أحد أصدقائها أخبرها انها يجب ان تزور طبيبها حالا لأنها مصابة بمرض لا شفاء منه، فتحت الظرف وتأملت النتائج، لم أعرف ماذا اقول لها وهي تنظر إلي نظرة طفلٍ ضاعت لعبته المفضلة آملا مني أنني أخفيتها ممازحاً له.
قصدتُ رفع نبرة صوتي لألفت انتباهها لما سأقوله : رائع، نتيجتك أفضل مِمَ توقعت، فتوقعاتي كانت أنك مصابة بمرضٍ قد يلازمك الفراش بعد شهر ولكن الصور نفت شكوكي
نظرتْ إلي نظرة راحة وركزتْ بحديثي اكثر، هذا هو المطلوب تماماً أريد ان أشتت انتباهها عن صديقها وحديثه أريدها أن تتأمل الأفضل فكما نعلم كم للجانب النفسي دوراً كبيراً على تطور المرض وتابعتُ حديثي: ولكنك والحمد لله مصابة بمرض أقل خطورة بكثير. وسأحدثك عنه يدعى بالضمور المخيخي عادة ما تكون أعراضه هي نفس الأعراض التي تمرين بها ولكن إنه مرض يخاف من القوة ويخاف من الإرادة القوية كلما كانت إرادتك أقوى كلما انهزم المرض وكلما خفت او استسلمت سيتطفل عليك رويداً رويداً، إنني أخبرك بالحقائق لتكوني في الحسبان ولتبذلي قصار جهدك في القضاء عليه وليس لتخافي وتستسلمي.
مسحتْ دموعها في تأنٍ وشربتْ كأس ماء ونظرتْ إليّ بتمعن وقالت: سأنتصر لن انهزم أبداً, اتفقت معها على خطة علاجية دوائية محكمة واتفقنا على موعد للأسبوع القادم، وبعد مرور أسبوع لم تأتِ للمراجعة ولم تعتذر عن الموعد، مع إنني عادة لا اسأل مرضاي عن سبب عدم مجيئهم فلعل المريض لم يرتح لي أو قرر استشارة طبيبٍ آخر ولكن فرح بالذات وهذا المرض خصوصا أثار وضعهما فضولي، وقررت الاتصال بها شخصياً ولكن لم يجب أحد، وفي المساء أتصل رقم غريب بي .
– مرحبا حضرة الطبيب انا اكون شقيق فرح، فرح متعبة للغاية، ولا اعلم لماذا تلازم الفراش دائماً، وفقدت شهيتها تماماً، لا تخبرنا عن أي شيء ولكن مؤخراً أخبرتني انها كانت تداوم القدوم إلى عيادتك.
– أهلاً بك، لقد أتصلت بها اليوم ولكن لم يجب أحد، اظن انني أرف ماذا تعاني ولكن لا نستطيع التحدث عبر الهاتف، أفضل القدوم إليكم لرؤيتها والتحدث معكم.
وبالفعل ذهبتُ إليهم لرؤيتهم كانت كالزهرة الذابلة لا تقوى على القيام لا ترغب في التحدث ثابتة في مكانها كمزهرية دون حراك، كلعبة لا تقوى على التفكير حتى او ربما الشعور، نعم هذا ما يفعله موت الأمل بالإنسان، سألتها عدة مراتٍ عن حالها لم تجب صامتة تماماً ما الجديد يا فرح؟ لقد كنتِ متفائلةً في المرة الأخيرة ومصرة على الانتصار …… لم تجبني لم تكترث لي حتى، طلبت من أخيها وأختها تركنا لوحدنا، وبدأت أسألها ما الذي أدى بها إلى ما هي عليه الآن، لا جواب ولا أي رد فعل.
-حسناً يا فرح إن لم تجيبيني فأنا مضطرٌ لأخبر أخويكِ عن مرضك، نظرتْ إلي مباشرة وقالت: أرجوك لا, لا أريدهم ان يحزنا بسببي او يشفقا علي، نظرتْ إلى الحائط بصمت وحزن، نزلت دمعتها الأولى تلتها الثانية، نظرتْ إلي بحدة وقالت: بحثت على الانترنت عن الضمور المخيخي إنّه مرضٌ لا علاج له ولا خلاص منه إنه مرض مميت واجهشتْ بالبكاء، تحدثتُ بنبرةٍ حادة إنّه ليس مميت يا فرح ولكن أولئك الجبانون من يجعلونه مميتاً، اللذين لا يؤمنون بالله ولا بأنفسهم، فرح أنا إنسان معافى من الأمراض إلى الآن ولكن هل تضمنين أنني سأبقى حياً لعامٍ واحد؟ او لساعتين؟ انظري يا فرح أتفضلين الموت فجأة بحادث سير أم أن يخبرك أحدٌ ستموتين بعد خمسة أعوام؟ انت محظوظة يا فرح لأنك تستطيعين في هذه المدة عمل ما لم تعمليه، وان تعتذري ممن أخطئتِ بحقهم، إنك في نعمة كبيرة لا تدركينها يا فرح, يتوجب علي الذهاب الآن ولكن إن أردتِ المقاومة فتعرفين الطريق.
اليوم وبعد عامان لازالت فرح على قيد الأمل لا تزال تحتفل بإنجازاتها، فخورة بقوتها وبتحملها، ومنذ يومان بدأت بالعمل على نشر الوعي حول الضمور المخيخي وتنشر الأمل لكل مصابٍ به.
لا تقتل نفسك وأنت لازلت على قيد الحياة، عِش كي تَعِش.
زيلان يوسف

إقرأ أيضا:صدفةٌ عادلة

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
نص نثري بعنوان ماذا لو بقلم يزن القاروط
التالي
الكاتب:مُنذر وليد القزق، يبدع في..”نصوص نثرية”

اترك تعليقاً