القصّة القصيرة

سجائر ومرآة بقلم: نفين ياسين القضاه

فى المُنتصف بين الوعي واللاوعي (مرآة في الوسط وانعكاس عشرين سيجارة) فلنبدأ!

الساعةُ الثانية عشر من السنة الضوئية الخمس مئة، اخترت داخل مطعم _أوستريا فرانشيسكانا_مكاناً مظلماً أجلس فيه على طاولة تتسع لتسعة عشر شخصًا، فقال لي النادلُ بذُهُول وغَرَابَة هل أنت وحدك أم معك أحد قادم، قلت له بكل عَظَمَة أنا من اخترت هذا المكان ليجلس معي كل أقراني، وأشرت بشُمُوخ وغَطْرَسَة لسجائري التسعة عشر ولجسدي الجالس في المقعد الأول داخل المرآة.
والمرافيقن الخمسة الذين لا أعلم من أين أتوا، هذه المرة هم أوجاعي وذكرياتي ووحدتي وشتاتي وخامسهم كان ضيفاً جديداً، وهو انتحاري وخلاصي لو كان باستطاعتي لأحجز الصالة بكامل مقاعدها داخل تلك المرآة المرصعة بالألماس وأقيم الوداع الأخير. مازالت الساعة السابعة مساءً داخلها والشمعة لم تشعل بعد، لكن سجائري بدأت تنفد، وقلبي بات ينطفئ، قهوتي باردة، وأطرافي مائلة للتجمد، نفدت سجائري ومازالت أفكاري مشتتة، من أين أبدأ بحساب نفسي.
المناخ يتقلب بداخلي وستار قلبي، يرقص كراقصة باليه تتمتع بسلام ورِقّة مع كل شهقة تحمل أَنِيناً وزفيراً يرحل بابتِهَاج، هناك أمواج تَوعد بتَهْوِيل، باضْمِحْلال وإانْدِثارٌ مهجتي، وأعاصير تَنْبِيه نفسي، هناك شيء ما سيجري لا أعلم ما طبيعته، وماهو هذا الشيء المنتظر، لكن الساعة تدق بعقاربها نحو نهاية أجهل ما هي.
المناخ ليس على مايرام، هناك بَلايا ونِقَم تجري، الآن يطرق نافذتي المببلة تسونامي بدموع الغيوم الزرقاء المنكسرة، آلامي ازدادت وانهارت فجأة، أطرافي باردة كجثة تركت أياماً داخل مقبرة نصرانية مسكونة بأم مقيدة بسلسلة من نار، أنا لست ثَمِلة ولا مخدرة العقل بالكحول أو ماشابه لكن لا أعلم لم أفكار الانتحار أتت!
عزيزي جسدي داخل المرآة لك مني ألف تحية؛ ففي كل مرة كنت أنت الرابح الأكبر في كل فَاجِعَة رَزِيئَة، ذلك الانعزال والاختباء جعلك ملاكاً رجيماً بأجنحة زرقاء، وبقيت أنا وحيدة بين رماد التسعة عشر سيجارة أتحرر من وحدتي، وفجأة تختفي الكلمات، وإذا بِمتطفل مزعج على شكل دودة الأرض يدخل دماغي ويسيطر على الكلمات ويُبدلها بِذكريات وبتفاصيل سيئة، أشاهد بصمت عارم تطاير رماد سجائري وتلك الشمعة اللّعينة، تقف في المنتصف لم تزل كما هي، أشعر أنني أقف في نفس المكان بكل مرة أردت التحرك بها، لا يمكنني الإحساس بما يحدث حولي لا يمكنني المتابعة، إحساسي تجمد بالفعل، لم تعد تلك القوة تلازمني، أصبحت قواي تتلاشى، إنني أفتقد جزءاً كبيراً مني، أشعر انني تائهةٌ بين لاشيء.
حسنًا جسدي فلبتعد ببطئ عن كل شيء حولي لم تعد لدي طاقة كافية للكلام، للمبادرة، للعتاب، للحب، للصداقة، للجميع، حقاً قد أرهقني شعوري وأرهقتني نفسي لشدة تعمقها، وأرهقتك أنت أيضًا، سأكمل آخر سيجارة و لنذهب من هنا، جسدي أين أنت؟ أنا لا أراك، لا تبعد، أشعر في الفراغ من دونك. جسدي اختفى والمرآة ورماد سجائري، فأين أنا ومن أنا، أهل يعقل أن السيجارة العشرون أنا.

إقرأ أيضا:حقوق مسلوبة،بقلم ،دانية الحلاق”قصة قصيرة” ج1

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
سِوار بقلم: تقوى عبد الحميد العيساوي
التالي
شارع المتنبي بقلم : هناء عبدالله

اترك تعليقاً