مقالات ونصوص متنوعة

“فقيد قلبي” بقلم إسراء سعيد جودت السّعيد(نص نثري)

السّاعة الثّانية في منتصف اللّيل من شهر حزيران
تسارع أحداث مرَّ عليها الزّمانُ والمكان وكأنّها تدور من جديد في ليلةٍ ماطرة
أحداثها ترتجف منها الجدران
وتهتزُّ بها السّاعات
هُدمت بيوتُ العناكب
أحداث تشقّ طريقًا في جدران سماء الغرفة معلنةً النّسيان وكيف لي أن أنسى أجمل سنين عمري؟
أجمل سنابل شهوري وقمح أيامي.
وحقلُ ذكريات حصدتها
بمحراثِ دماغي.
ولحظات سرت في شرايينُ جسدي
عندما كنتُ مع جدّي أقطفُ أزهارَ حبّهِ .
عندما كان يروي لي أجمل الحكايات .
حكاياتك يا جدّي كانت وما زالت في برواز صنعته أنت، علّقته ونقشت أحرف شفتاك عليه .
عندما قلت لي إذا ذهبت وجاءت ساعتي فقط
انظري إليه وتمعّني بنقوشهِ ولا تنسِني.
حاكت جدّتي مسكناً له بيداها اللّتانِ غرقتا في صوف ذكرياتك يا جدّي
عندما كنتَ تحضر لي مثلّجات تصنعها بلمساتك الجّميلتين .
كنتُ أحضر لك شرابك السّاخن “شاي أكرك عجم”
بلونهِ الغامق وحلاوته المتوسّطة ونعنع بستانك.
توقّد لي دفئاً بحبّك وعطفك تدفئني بحضنك الدّافئ،
تلعب معي تركض ورائي ،
أقعُ فوقَ كومةِ القشّ ،
تخافُ عليّ أن أتأذى من قساوةِ القشّ والأيام.
تخاف على نفسي من نفسك. تُحدّثني عن أيامك في الجيش وعن مجريات ما حصل معك في معركةِ الكرامة.
تحدّثني عن خبرتك في الحياة وعن زهورِ شبابكَ وشيبِ أيامك.
ألعب وأسرح بقطيع خرافك
لتسمعني مواويلكَ التي يعجزُ آلاف وملايين الشّعراء أن يأتوا بها وبجمالها .
لترتّلَ لي آياتٍ بصوتك العذب .
عندما كنّا نجمع أوراق الأشجار المتساقطة،
عندما بنيت لي كوخاً أختبئ به،
وعندما تمطر تغطّيني بسترتك السّوداء لتحميني من برد الشتاء. تصنع لي رجلَ ثلج لتزيّنه بطاقيّتك ولفحتك وبجزر بستانك
كنتُ ألجأ إليك في جميع أوقاتي.
أنتَ لمْ تكن جدّي قط كنت أبي.
جعلتَ أرضك وطن ومن سمائها أمان.
أكتب في دفتر مذكّراتي الّذي أهديتني إيّاه في عُمرِ الخامسة عشر عن كلّ يومٍ قضيته معك
عن كلّ رُكن أبكي به لتأتي لتمسحَ دموعي .
ولكن هل يستطيع المرء أن لا يتذكّر مكاناً قضى فيه بعض من حياته؟
جائنا يا جدّي ضيف أحرقَ بذورك
ويبس عشبك ولمْ يبقَ أيّ ثمر
يزرع ويخضرّ ،تصدّأ محراثك
رميتني بعيدًا وأنت تحاول إطفاء الحريق. انخمدَ الحريقُ ولمْ أجدُكَ يا نورَ عيناي
أبحث وأصرخ جدّي جدّي
أين أنتَ يا جدّي؟
هل تلعبُ لعبة الاختباء ؟
حسنًا يا جدّي عندما أقول نور عيني ستظهر يا حبيبي
قلتها مرارًا وتكرارًا ولمْ يرد عليّ.
لم يظهر ،
كان صوتي فقط في بستانك،
أيّ بستان لمْ يبقَ شيء
أنادي من جديد جدّي بصوتٍ تقطّعت أوتار حلقي .
رماني لينقذني وهوَ غرق في حريق بستانه .
أصابتني صدمة كصدمةِ مريض في غرفة الإنعاش يسمع أحد أقاربهُ يدعو له بالموت
أُحرقتْ ذكرياتُ قلبي.
كيف لي أن أنسى مكاناً قضيت فيه أنا وأنت عمرنا؟
لمْ تعد هناك ،لم يعد هناك مكاناً ألتجِئُ إليه.
خضرة بستانك تحولت إلى رماد.
منْ سينهضني إذا سقطت على الأرض ؟
منْ سيزيلُ ألم جراحي؟
منْ سيقول لي انهضي أنتِ قوية؟
وكيف لي أن أنهض بدونك وألّا أتّكِئ عليك ؟
رحلت بعيدا …
أمشي وكأنَّ ما أصبح خيال
دموعي نشفت من كثرة البكاء
أضحكُ بصوتٍ شديد بقهقات
تدمّرُ نفسي
الصّمتُ أكلني أكلَ جائع
ضعفت قِواي
أصبحتُ كدمية تريدُ منْ يحرّكها
بُتِرت أجنحتي لم أستطع الطيران كما كنت عندما أراك
أطير من فرحتي برؤيتك
أصبحَ نهاري ليل وليلي نهار.
دفنتك ودفنتُ معك صيفي وربيعي وخريفي وشتائي.
هل سأنسى ما حدث ؟
هل لك بزيارة في منامي لرؤيتك؟
المؤلم في الحياة كيف للمرء أن ينسى مكانا وعزيزًا على قلبه كان كلّ شيء بالنّسبة إليه
هل سينسى أم سيحاول النّسيان؟
عندها سأحاول التّناسي والنّسيان أنّكَ لمْ تبقَ على قيد الحياة
عد إلى شقراء حياتك
سأتناسى أو سيقضي عليّ النّسيان
تاللّه أنّ فقدانك أحدث في نفسي ثغرات لا يمحيها الزّمان ولا المكان..
فلترقد روحك بسلام، عليك السّلام إلى يوم يبعثون.

إقرأ أيضا:ماهى تمارين جيليان

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
“أرواح هشّة” بقلم شذى سالم الكردي (نص نثري)
التالي
الجنون بعينه بقلم:”شذا سالم الكردي”

اترك تعليقاً