مقالات ونصوص متنوعة

وافترقنا، بقلم : رهام منير عبد النور

افترقنا!
و ماعادت هنا!
رغماً عنا تشتتنا!
و ماكانَت حيلةٌ بيدنا..
و عندما اقترب لقاؤنا!
شُنَّتْ حروب الدنيا في وجهِنا..
و مع أقدارنا تعادينا..
غربةٌ عنيفةٌ احتلت حياتي، انقضّت على قلبي كوحشٍ التقى بفريستِهِ بعدَ جوعٍ طويلٍ، فتحتْ يديها على مصراعيها و احتضنتني، رمتني بقاعِها لمصيرٍ مجهولٍ و صبَّتْ لي عمراً من الوحدةِ، في يومٍ حلَّقتْ بهِ تلكَ الطائرةُ نحو أقاصي الأرضِ حاملةً بينَ أجنحتها شقيقةَ روحي إلى أعالي السماءِ نحوَ دربٍ بعيدٍ، دربِ الغربةِ.
أنتِ يا شقيقةَ روحي، أنتِ يا أنا، يا معزيّتي و عزائي بعدَ فقدي لمن أحب، يا فرحةً حظيتُ بها بعد سنينٍ من الحزنِ، يا شمساً سطعَتْ في سمائي و بثَّتْ بيَّ أملاً بغدٍ أفضل، منذُ أربعةِ سنينٍ و بُعدُكِ ينخرُ في قلبي شوقاً لكِ، شوقاً لكتفِكِ الذي اتكأتُ عليهِ عمراً و باتَ ببعدِ السماءَ عني، شوقاً لصدرَكِ الذي ماعادَ يمتصُّ دموعي، ولم أكن أعي كمَّ هذا الشقاءِ الروحي الذي سيجتاحني بعدَ رحيلكِ، و ها أنا ذا منذُ تلكَ اللحظةِ و إلى اليومِ أحتضرُ من سرطانِ غيابكِ، و قد أضنى الحنينُ جسدي.
أتعلمين أنَّه لو كانَ بإمكاني التحليقُ عالياً لأجدَ إلى وصالِكِ سبيلا، فأقسمُ أنّني سأجتاحُ كلَّ البلادِ الفاصلةِ بيننا و أمرُّ بها واحدةً تلوَ الأخرى دونَ تعبٍ أو مللٍ لأصلَكِ، و لكن ما حيلتي و أنا عصفورةٌ مبتورةُ الجناحينِ؟! فلعنةٌ أبديةٌ لِغربةٍ سرقتكِ مني، اللعنةُ عليها مرةً و مرتينِ و ألفَ مرةٍ فقد زجرتني بوحدةٍ خَرقَتْ أملي و أنَهكَت قوّتي..
منذُ أن رحلتِ بعيدا، و أنَّاتُ قلبيَ الممزق أصبحتْ مؤنِّسةً لوحدتي والوفيةُ التي لم تتخلَّ عنّي للحظةٍ واحدة، و أصداءُ ذكراكِ امتزجتْ مع كلِّ أحزانيَ التي مضتْ و عانقتْ فؤادي المنكوي بلوعتهِ بعناقٍ حار، أعلمُ تماماً أنَّها لنْ تنجلي إلّا إذا عدتِ، فمتى تعودين!؟
ذاتَ يومٍ و أنا غارقةٌ بينَ أوراقي و كتبي، أحضِّرُ لامتحانٍ قضى على قوّتي العقلية، أضاءتْ شاشةُ هاتفي برسالةٍ ممزوجةٍ ببصيص أمل، أنتِ من أرسلها.
احتضنت عيني هاتفي وقرأتُ مقتضبَ الكلامِ: -قادمةٌ لاحتضانكِ أنا، أتصدقين هذا! نعم سوف آراكِ، فقريباً سأحصلُ على الجنسيةِ الكنديّةِ و حالما أنتهي من عامي الدراسي سأعودُ إليكِ، سنعيدُ كلَّ ذكرياتنا و سنرمي أربعَ سنواتٍ من الغيابِ وراءنا ونمضي قدماً سويّة، سنعوَّضُ كلّ ما فاتَ منّا، عدّي أيامَ الغيابِ يا عزيزتي فاللقاءُ قد باتَ قريباً-
رحتُ أتراقصُ فرحاً على طربِ هذهِ الحروف و أتمايلُ يميناً و شمالاً على أنغامِ تلكَ الكلماتِ، علمتُ تماماً أن الإنسان يمكنَهُ أن يرقصَ على حروفٍ و ليسَ فقط على المقطوعاتِ الموسيقيّةِ، شعرتُ بفرحةِ الروحِ بعدَ فقدِها لمدةٍ طويلةٍ.
بدأتُ أعدُّ أيامَ اللقاءِ بثواني الساعاتِ، أرسمُ مخططاً مليئاً بأحلامٍ لم نستطع تحقيقُها سابقا، وضعتُ جميعَ أماكننا المفضّلةِ على قائمةِ الزياراتِ، وبقيتُ أنتظرُ نجمَكِ ليُضيءَ غياهبَ السنواتِ.
و ها نحنُ الآنَ في جائحةٍ لعينةٍ تُدعى “كورونا”، أُغلِقتْ جميعُ المطاراتِ و أُلغيتُ تذاكرُ السفر كلّها، لا لقاءَ بعدَ الآنِ و لا انطفاءَ لنارِ الشوقِ، لا أدري ما الذنبُ الذي اقترفناهُ مع قدرنا ليعاقبُنا بهذا الشكلِ المُريبِ!.
بُترتْ أحلامُنا و شُلَّت آمالنا و بقيتُ أنا وحيدةً في تلكَ الأماكنِ، أحقاً شقاءُ اللقاءِ يعادلُ شقاءَ الغيابِ!
لقد كانَ ضربٌ من الجنونِ أن أنسى بأنّنا أنجبنا أملاً من رحمٍ مصابٍ بالسرطانِ!..

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
الغريب، بقلم: وئام موسى’ نصوص نثرية
التالي
مذكرات وطن حزين، بقلم : سجى أبا زيد

اترك تعليقاً