مقالات ونصوص متنوعة

كفاح نازحة/بقلم:سلام محمود جمعة.”قصة قصيرة”

أسدل الفجر خيوط الشفق الأولى معلنا ميلاد يوم جديد… ومثل الفجر الشاسع خرجت من تلك الديار، التي بدت تحت قبة السماء كشيء منسي وبعيد… ودعت بظلها  المخيم الذي تركته خلفها غارقا بالوحل، والبؤس، والفقر… تشق دربها كما يشق المحراث الأرض.. بقامتها الشامخة.. وثوبها المهترئ.. ومزق قلبها.. وملامحها المرهقة.. وإشراقة وجهها المشوب بسمرة جذابة.. تحمل على كتفها صرتها الفقيرة التي تحفظ فيها طعامها (الزوادة)….في هيئتها ملامح وطن ضائع ..ملامح امرأة ذاقت ذل النزوح، وتجرعت مرارته ألوانا من العذاب، والقهر، والأسى، حيث أجبرها على العيش في مخيم بائس منذ عام ألف وتسعمئة وسبعة وستون -عام النكسة- النكسة التي عصفت بوجه أبناء الجولان السوري، واقتلعت جذورهم منه بعد الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم، وفي ذلك المخيم قضت عمرها بين الحقول، وبيوت المدينة.. تحصد… تغسل… تكنس… تنظف… كي تنتزع لقمة عيشها من براثن الحياة الظالمة -تلك اللقمة المغموسة بالدم- وتؤمن لأولادها حياة كريمة -ليست كحياتها- وليوسف -ابنها البكر- الذي بدأ دراسة الطب في جامعة دمشق، حياة يرقى بها إلى خارج حدود المخيم، فهو أكثر مايجعلها تصبر على هذا العمل الشاق… إنه أملها، وفخرها، وقارب النجاة الذي سينتشلها من ذلك المستنقع القذر.
سارت بخطا متسارعة كي تلحق بالحافلة التي ستقلها إلى الحقول التي تعمل بها.. فموسم الحصاد قد بدأ، وبدأ معه عمل متعب ستجني من ورائه مايسد رمق فقرها… بدت وسط حقول القمح شيئا لامعا ينبت من جوف الأرض كما تنبت السنابل من رحمها.. وبذراعين أسمرين مزجا بلون التراب كجذعي شجرة معمرة، شرعت  تحصد سنابل القمح بذلك المنجل الصدئ -كعمرها- وتحت أشعة الشمس المتوهجة راحت تمسح العرق المتصبب على جبينها بكفين خشنتين كقطعتي خشب، والتي دفنت في شقوقهما ماكومته السنين من تعب! تمسح معه شقاء يوم كامل من الكدح.
وكجندي مهزوم خسر المعركة عادت إلى ذلك المخيم… إلى تلك الدار.. تجر أذيال هزيمتها أمام الحياة.. وفي إحدى الغرف الطينية الكئيبة، وجدت ابنها يوسف صامتا ساكنا أمام كتبه.. يسكب صمته على أوراقه.. أقلامه.. ينعكس على وجهه ضوء قنديله الصغير.. اقتربت منه تمسح على رأسه بيدها الخشنة، التي فاحت منها رائحة الأرض، والتراب، والكفاح.. وأردفت بنبرة تملؤها الحسرة: (يايوسف أياولدي انظر حولك …راقب جيدا” كيف نعيش لست أريد ان تحيا هذي الحياة عليك ان تدرس جيدا لم يتبق لنا من شيء حتى الأرض خسرناها  لم يبق لنا سوى هذه الدار المظلمة  ادرس لعل علمك يخرجك نحو النور..

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
حقوقٌ مسلوبة، بقلم : لُجين جمال بصول، “مقالات”
التالي
هاجس كورونا، بقلم : مروة العرفي، “نصوص نثرية”

اترك تعليقاً