مقالات ونصوص متنوعة

التراث الفلسطيني.. أمارة الوجود / محمد حمدان الرقب




بسم الله الرحمن الرحيم
(التراث الفلسطيني.. أمارة الوجود)
محمد حمدان الرقب
ملخّص:
يعتني هذا البحث بمقولاتٍ تراثيّة فلسطينية، أثبتت رِجْلَ الوجود الفلسطينيّ وحقّه في العيش بكرامة فوقَ أرضٍ لها حدودها المعروفة منذ الأزل، وقَبْل وعد بلفور المشؤوم وما تلاه من أفعالٍ إنجازيّة تمثّلت بتدفق مئات اليهود المهاجرين من أرجاء الأرض كافّة إلى أرضِ فلسطين، ويرى البحث أنّ الوجود الفلسطيني لا ينقصه شيء حتى يُعترَف به، غيرَ أنّ الاحتلال الصهيونيّ لأرض فلسطين منذ عام 1948 حتى يوم الناس هذا فَرَضَ عليه أن يستثمر المعطيات التراثية الفلسطينية في تبيان حقّ الفلسطينيين في العيش فوق أرضهم بلا منازع أو مدافَع.
المقدّمة:
من نافلة القول أنّ العرَب أمة راقية ولها قدم راسخة في الحضارة الإنسانيّة المغرقة في القدم، وأنها سكنت مناطقَ معروفة لا ينكرها أيّ منصف، ولا يُراد لهذا البحث أن يؤصّل تاريخيّا لمسألة الحق الفلسطيني في أرض فلسطين، ولكنْ تكفي الإشارة إلى أنّ المسيحيين انتظروا بشوق قدومَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليسلّموه مفاتيح القدس، وعقد معهم ما يسمى العهدة العمرية، وذلك بُعيد انتصار المسلمين في معركة اليرموك، وهذا يدلّ بشيء من الوضوح على أن المسيحيين كانوا معترفين بأحقية العرب في أرض فلسطين، وأن وجود اليهود فيها وجود طارئ أو عارض، أو في أكثر الأحوال وجودٌ لا يؤهلهم لمطالبتهم بها حقا مفروضا لهم، وتكفي الإشارة أيضًا أن أرض فلسطين أرضُ الأنبياء ومنها أسري النبي العربي إلى السماء السابعة، وما عُرج بالنبيّ الكريم حسب تقدير البحث إلا لمنزلة أرض فلسطين ولتحوّل تاريخيّ غيّر مسار الحياة بعد ذلك.
ولعلّ خيرَ شاهدٍ على أحقية العرب بأرض فلسطين الحكم العثمانيّ الذي امتدّ حتى مطلع القرن العشرين، وكانت نسبة المسلمين إذ ذاك تبلغ نحو 85%.
أما في العصر الحديث فقد غرّرت بريطانيا بالشريف حسين ووعدته بأرض عربيّة مستقلة ومعترف بها مقابِل المساعدة في التخلص من العثمانيين الباسطين نفوذهم على الأراضي العربيّة، ولما تم لهم مرامُهم قلبوا له ظهر المجنّ، وأصدروا مع فرنسا اتفاقية سايكس بيكو 1916 التي تعني تقسيم الأرض العربية بين هاتين الدولتين، ثم منحت بريطانيا اليهود وعدا عام 1917 بأرض فلسطين.
وكما يقال: عدم وُجدانِ الشيء لا يدلّ على عدم وجوده، فإن غيابَ الصوت العربيّ المجلجل عن حقه في أرض فلسطين، وخذلان الدول العربيّة شقيقتهم فلسطين لا يدلّان بأي صورة من الصور على الرضا بالواقع الذي آلت إليه فلسطين عام 1948حيث النكبة الفلسطينية.
إنّ هذا البحث كما أُشيرَ قبلُ ليس في وُكده أن يفتح جرحًا كبيرًا لا يُستطاع تضميده بسهولة شديدة، ولكنّه كان محاولة لإضاءة كشّاف قويّ على هذا الحقّ الأصيل في أحقية العرب في فلسطين، وعن حقّ الشعب الفلسطيني في العيش بسلام، بغير اهتمام بأي اتفاقية مضادّة لهذا الحق الأوّلي لأي شعب من الشعوب القاطنة فوق الكرة الأرضيّة.
ويفترض البحث مقولاتٍ تراثية تدعّم وجودَ فلسطين وأحقية العرب بها، متحسسا بعض مظاهر التراث الفلسطيني الأصيل في سبيل المدافعة عن أي صوت نشاز يقضي بأن فلسطين أرض يهودية أو بحلّ الدولتين، ويفترض البحث أيضًا أن فلسطين أرضٌ عربية من رأس الناقورة شمالا إلى أم الرشراش جنوبًا.
التراث الفلسطيني:
لا يقلّ التراثُ بما يحمله من دلالات وأبعادٍ ذات اتجاهات دينية واجتماعية وأيدولوجية عن أيّ عنصرٍ آخرَ لا يكتملُ بناءُ المجتمعاتِ إلا به، كمثل اللغة والهوية والدين وسائر العناصر المهيمنة ذات النّسق السياديّ في أيّ أمة من الأمم، وفوق أيّ أرضٍ من الأراضي، فإذا كانت القبائل النائية في أقاصي البلاد تعتزّ بما لديها من أسبابِ البقاء والتجذّر، فإنّ فلسطين، مثلها مثلُ أيّ بلد، تعتزّ بما لديها من أسبابٍ تجعل من استمرارها في وجه الآلة الصهيونية فرضا لازبًا عليها؛ ولأنّ أيّ بلد من البلدان، مهما توافر له سببٌ من أسباب الحضارة والتمكين، إن انسلخ عن ماضيه واغترب عن حاضره وتضبّبت لديه رؤى المستقبل، فإن مآله إلى زوالٍ أو هوانٍ لا يحفل به أحدٌ.
وحينما يحسّ أيّ بلدٍ من البلدان بأن هويته في مهبّ الريح أو في مرمى البلدان الأخرى التي تروم نسفه وتغيير ملامحه، فإنّه يلجأ في العادة إلى تراثه عاضّا عليه بالنواجذ، “فإنّ جميع الدراسات تشير إلى أنّ عديد شعوب الأرض لجأت إلى تراثها واقترب منه أكثر عندما كانت تشعر بالخطر على هويتها، ويبدو ذلك واضحًا عندما نلاحظ أن كتب التاريخ بيّنت أن القرن التاسع عشر الميلادي شهد نشاطًا أوروبيا كبيرًا في دراسة التراث والسعي إلى جمعه وذلك سعيا من شعوب تلك البلدان إلى تأكيد هويتهم التي بدأت تهددها الحروب بين دول أوروبا التي كانت تتجاذبها في تلك المرحلة تياران أحدهما عقليّ يمثله الفلاسفة الذين انصرفوا لعلاج المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية، والآخر عاطفيّ تمثله الحركة الرومانسية التي ارتبط بها البعث القوميّ للشعوب الأوروبية عندما باتت هذه الشعوب تعود نحو تراثها من أجل جمع شمل أفرادها” (محمد، غسان نمر: 2008، ص64)، وإن كان ذلك كذلك وهو كذلك، فإنّ فلسطين، مثلها مثل غيرها من البلدان، بعدما تخلّى عنها القريب والبعيد، ولم يكن لها إلا أن تلتفت لتاريخها المغرق في القدم، وتراثها المحمّل بالدلالات والأبعادِ الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والفنية؛ فالمسألة إذن مسألة بقاء أو اندثار، إما أن تبقى بتمسكها بأسباب البقاء وإما أن تشيخ كما تشيخ الذئاب فيكتب لها أسباب الموت من غير عناء.
ولعلّ أبرزَ مظاهر التراث الفلسطينيّ، ما يأتي:
1- اللهجات: فهي تميز الفلسطيني كأنها أيقونة أو شعارٌ أو علامة سوسيولسانية ينماز بها متكلمها، ويُتعرّف إليه على هذا الأساس، فنظرةٌ متفحّصة إلى هذا الملمح التراثيّ الرائد تتكشّف عن تنوّع هائل في طبيعة اللهجة الفلسطينية، ومعجمها المفعم بالحياة، واللهجة مثلها مثل اللغة محمول فكري ثقافيّ يتفاعل معه المجتمع ويتصل به، ففي عام 1998 صدر الجزءان الأول والثاني من القاموس العربيّ الشعبيّ الفلسطيني- اللهجة الفلسطينية الدارجة للدكتور عبد اللطيف البرغوثيّ، وكان الداعي لهذا العمل مجموعة أسبابٍ لعلّ أهمها أنّ “اللهجة العربيّة الفلسطينية التي لا وطن لها هي المهددة بالضياع والاندثار والواجب القوميّ يحتّم علينا تدوينها إذ إنها من المقومات المهمة للهوية العربية الفلسطينية” (شحادة: 2003، ص67).
2- الأمثال الشعبية: تعدّ الأمثال الشعبية مرآة عاكسة لسيرورة الشعوب، وأفكارهم نحوَ العالم، وطريقة تعاطيهم أسباب الحياة، فلكلّ سلوك أو موقف يعترض طريق الإنسان مثلٌ ينطبق عليه، فللخوفِ مثلٌ وللشجاعة مثل وللزواج مثل ولخيانة الصديق مثل، وللبخل مثل، وللاستجداء مثل؛ فهي إذن حصيلة ثقافية قارّة؛ ترفع تارة وتخفض تارة وتقرب وتبعّد، وتستحثّ الهمم وتثبّط العزائم، ولنا أن نستثمر الأمثال الشعبية في الحالة الفلسطينية المعاصرة، فـالمثل “ابن بطني بيعرف رطني” يوحي بتخاذل العالم عن مناصرة الشعب الفلسطيني في حقه، ولا يشعر بحجم الأسى الذي يذوقه كلّ يوم ألف مرة إلا من اكتوى بمثل ما اكتوى به، ولعلّ المثل : “إذا ما كنت فارس كنت الفريسة” يمثّل انكفاء على الذات الفلسطينية، فكان بإمكان العرب أن ينتصروا لقضية فلسطين إن لم يكن منذ بدء النكبة فإن فرصا واتتهم بعد ذلك ولكنْ لم يحركوا ساكنًا، و”الشمس ما بتتغطى بغربال” فالحق أبلج والباطل لجلج، ومن يظنّ أن القضية لقيتْ مناصرًا فهذا محض وهم وخيالٍ رومانسيّ حالم، فالعين بصيرة واليد لم تكن قصيرة ولكنْ خائفة.
3- الفلكلور الشعبيّ: مع تنازع اليهود الأرض الفلسطينية وادعائهم أنها أرضٌ يهودية خالصة لهم، بدا من اللازم أن يتمسك الفلسطينيون بهويتهم التاريخية ويذبّوا عن وجوههم هذا الذباب المتطاير والسارق لكل ما هو فلسطينيّ، و”تعتبر عودة الفنانين إلى الأساطير الكنعانية عودة إلى الذات الفلسطينية وحفاظا عليها وشاهدًا عيانا على تجذّر الوجود الفلسطينيّ في أعماق أرض فلسطين تاريخيا وحضاريّا، وتبيانا للعلاقة الجدلية  بين الإنسان والأرض والتراث” (الجبر: 2006، ص57)، وهذا دليل شاهدٌ على أن التراث عنصر مهم يدلّ على أحقية أي شعب بكلّ ما يتصل به من أسباب وعلى رأسها الأرضُ بما تحمله من مضامين لا تقبل التفريط فيها ولا المساومة عليها، ولعلّه توجد أغانٍ شعبيةٌ سارت بها الركبان، من أمثال أغنية يا زريف الطول ومغنون حملوا همّ القضية الفلسطينية من أمثال (أبو عرب)، بحيث عدت أيقوناتٍ مضيئة في سماءِ فلسطين وقارّة في وجدان الفلسطينيين بل في وجدان العرب والعالَم الغربيّ المنصف، ولعلّ التنوع الكبير في الأزياء الفلسطينية دليلا هاديا على تجذّرها بالأرض والتاريخ، فلكل مدينة أزياؤها الخاصّة، ومطرّزاتها التي تُعرف بها.
4- الحكاية الشعبية: وهذه من أهمّ المظاهر التراثية التي تدل على تاريخ الشعوب، فالحكاية تتناقلها الأجيال عن الأجداد، وأجداد الأجداد، بما يصحبها من ذكرٍ لأسماء مناطق وأماكن وشخصياتٍ وأحداثٍ تعمّق جذور الهوية وتكسبها بعدًا أيدولوجيا وجغرافيا مهما في تثبيت هذه الهوية وأحقية الشعب بأرضه ووطنه، فلا ينازعه فيها أحد، ولو كثر الإرجاف حوله والتدليس واجتماع أمم الأرض عليه لإخراجه منها وإبعاده عنها، فمهما طالَ ليل الظلم فلا بدّ من أن يرجع الحقّ إلى صاحبه، وقد نَهَد كثير من الباحثين إلى توثيق هذا العنصر النافذ، فقد جمع عمر الساريسي في كتابه (الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطينيّ) حكاياتٍ تروي الكثير من أدب الفلسطينيين، وعاداتهم وتقاليدهم فضلا عن بطولاته ووطنيّتهم ومروءتهم ونخوتهم جمعها من سكان المخيمات وغيرهم من النازحين الفلسطينيين الذين شرّدهم الصهاينة من ديارهم ليقيموا في مخيمات بعد أن كانوا يسكنون البيوت ويعمرونها (الساريسي: 1981، 215-216) وكان هدفُ الكتابِ التأكيد على هوية الشعب الفلسطينيّ الذي هدر حقه وسلبت هويته، فكان دليلا على من يشكك وينفي بأن لهذه الأرض شعبًا يستحقّ الحياة ويسعى إلى الرجوع إليها.
5- الأدب الفلسطينيّ: قد يتبنى البحثُ فكرة رائدة تتمثل في أنّ التراث الفلسطينيّ ليس الذي قد انقطع زمانه عنّا وأصبحنا ننظر إليه بتشوّف، بل التراث يشمل أيضًا ما يعيش بيننا الآن، فلا يكفي أن ننظر إلى تراث الأجداد المحمّل بالأوجاع وبالجروح النازفة، التي عكست التضحيات الهائلة التي قدّموها لنا من أجلِ المطالبة بالحقّ الأصيل، ولعلّ الأدب الفلسطيني المعاصر صورةٌ ناصعة ومعجمٌ ثوريّ بامتياز يعكس ما آلت إليه الأوضاع ابتداء من نكبة فلسطين عام 1984 حتى اليوم، ولنا في مسلسل التغريبة الفلسطينية أسوة حسنة، فهو في ظنّ البحث أضخم عمل فني إبداعي حمل رسالة القضية الفلسطينية وطاف الآفاق بها، ولعلّ الجندي المجهول فيها وهو وليد سيف قد قدم للعالم كلّه هما إنسانيا خالصًا متمثلا بأحقية الشعب الفلسطيني بأرضه، وبتكالب الأمم المتحدة على فلسطين، وبتآمر الحكام العرب عليها، وبصدوفهم عنها، وإنّ تأملا في السيرة الذاتية لهذا الكاتب الكبير التي جمعها في كتابه الشهير (الشاهد والمشهود) لينبئ عن تعبير صادقٍ صادفه البحث في أحد المواضع (أخّاذة، مذهلة، مدهشة!)، فهي تحكي حكاية الدرب الطويل، ولعل كتابين آخرين هما في رأي البحث لا يقلان أهمية عن سيرة وليد سيف، وهذان الكتابان هما: (ولدت هناك ولدت هنا) و (رأيت رام الله) للكتاب الكبير مريد البرغوثيّ، وتكفي الإشارة في أحد هذين الكتابين إلى حجم المأساة والملهاة التي وصل إليها اللاجئون الفلسطينيون في الخارج: “فلسطين لم تسقط في حرب ذات بداية ونهاية كالحروب التي نعرفها. الحروب الكبيرة والحروب الصغيرة تبدأ ثم تنتهي. من حرب طروادة إلى فيتنام إلى الحرب العالمية الثانية… إلخ، وبوضوح يليق بالعقل البشري تعرف أنك خسرت، أو تعرف أنك انتصرت، قم تفكر في الخطوة التالية وينتهي الامر. لم تأت بوارج الجيوش اليهودية وتدك هذا السور وتقتحمه على أهل عكا. ها هو في مكانه منذ كان وكما كان. لم تقم قوة بمحاصرة جيش فلسطيني ليرفع لها الرايات البيضاء وينتهي الأمر برابح نهائي وخاسر نهائي. أقول: فلسطين ضاعت نُعاسا، وغفلة واحتيالا. في كل يقظة حاولناها، وجدنا موتنا ورحيلنا الموحش إلى المنافي والمنابذ والاخطاء. نعم الأخطاء. (ونحن لا نزال نخطئ حتى الآن). كل هذا تم ببطء يبعث على الرهبة. كيف تنعس أمة بأكملها؟ كيف غفلنا إلى ذلك الحد بحيث أصبح وطننا وطنهم؟”. إنّ هذا التسآل الأنطولوجي مبعثه الخيبة وانكسار الذات أمام نفسها، وهذا المعنى وغيره من المعاني تمثّل جليا وواضحًا في دواوين الشاعر الكبير محمود درويش، فهي تمثل حالة من السيرورة والصيرورة، وتمثل سؤال الحال والمآل، وما انشطار الذات وتغربها وتسآلها الدائم إلا عن ألم وقهر وظلم تعرّضت لها، أما معاني التجمع (القهوة) والسلام (الحمامة) والطرب (السنونوة) والفداء (الصليب) وغيرها من المعاني المكتظّة في أدب درويش، فهي تمثل حالة فريدة من التمسك بالجذور وفي رفض الراديكالية الصهيونية والغربيّة التي تحاول دائمًا مصادرة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، والعيش بسلام فوق أرضه، وأما التعب فتمثله في ظني قصيدة (لا شيء يعجبني) إذ هي حالة مصغّرة تمثّل شعبًا كاملًا، لا يستحقّ أن يُطرد من أرضه وأن ينزل من حافلته، لكنّ السأم بلغ مبلغه من الفرد الفلسطيني “أما أنا فأنزلني هنا، أنا مثلهم، لا شيء يعجبني، ولكني تعبت من السفر” وهذا السفر الدائم للشتات الفلسطيني تقابله في كثير من الأحيان السخرية والمفارقة العجيبة، ففي كتاب مريد البرغوثي (ولدت هناك ولدت هنا) نرى هذا البعد الممزوج بالهزل من الذات الفلسطينية نفسها: “مررنا من نقطة الحدود بين سيارتين. تقدم الشرطي وطلب جوازات السفر. جمعناها وقدمناها له فرأى العجب العجاب: وجد بين يديه جوازات سفر من كل حدب وصوب: أردنية وسورية وأمريكية وجزائرية وبريطانية ومن دولة بيليز أيضًا، وبأسماء تدل على أن أصحابها من عائلة واحدة، فالكل “برغوثي”، بالإضافة لجواز سفر رضوى المصري، وجواز سفر إيميل حبيبي الإسرائيلي، وقد كان وقتها قادمًا من الناصرة ليشارك في الندوة الفلسطينية ذاتها في جنيف، فدعوته إلى بيت منيف، ليأكل “القطايف” في بلاد الفرنجة. فهمتُ من الذين يفهمون اللغة الفرنسية ممن معنا، أنّ الرجل طلب أن يشرح له أحدُنا هذا الكوكتيل من وثائق السفر. وعندما بدأ أحدهم يشرح الأمر قاطعه ضاحكًا:
     لا أريد أي شرح! لا أريد أن أفهم!.
وتمنى لنا مشوارا سعيدًا في جنيف. واصلنا طريقنا وقد انتقلت لنا دهشة الفرنسيّ من وضعنا. قال أحدهم:
     والله احنا فضيحة عن جدّ يا جماعة!” فالتمزق الذي أحدثه الكيان الصهيوني الغاصب على مرارته جعل من الذات الفلسطينية أضحوكة، وهذا يعكس حجم الدمار الهائل الذي خلّفه، وكأن العالم يشرئبّ ليتربّص بهذه القضية التي قد تُنسى، ولعلّ النسيان غير واردٍ في قاموس الشعب الفلسطينيّ وإن نام المخيم، فعبد اللطيف عقيل الشاعر الفلسطيني يحذّرنا أن لا وقت للنوم: “ينام المخيّم لا وقت للنوم لا نوم للوقت” فالوقت طالَ فهو يمر ببطء، ولا خلاص ولا مناص، فحالة الشعب الفلسطيني تصوّرها تقنية التناصّ في  قصيدة محمود درويش (من روميات أبي فراس الحمدانيّ) فالشاعر أسر في بلاد الروم، ولم ينتصر له حتى ابنُ عمه سيف الدولة، وبقي في ديار الروم سنين عددًا لا نومَ لوقته ولا وقتَ لنومه:

إقرأ أيضا:نص نثري بقلم خلود جميل أبو نمر
صدى راجع. شارع واسع في الصدى

خطى تتبادل صوت السعال وتدنو
من الباب شيئاً فشيئا وتنأى
عن الباب. ثمة أهل يزوروننا
غدًا، في خميس الزيارات. ثمة ظل
لنا في الممر. وشمس لنا في سلال
الفواكه. ثمة أم تعاتب سجاننا:
لماذا أرقت على العشب قهوتنا يا
شقي؟ وثمة ملح يهب من البحر
ثمة بحر يهب من الملح. زنزانتي
اتسعت سنتيمتراً لصوت الحمامة: طيري
إلى حلب، يا حمامة، طيري بروميتي
واحملي لابن عمي سلامي!

أما ابن عمّ الشاعر فلم يسمع له صوتًا، ولم يأبه به، ولم يحفل لأمره، وهذا السيرورة تنسحب على فلسطين حين خذلها العرب أجمعين:

فلأكن ما تريد لي الخيل في الغزوات:

فإما أميراً
وإما أسيراً
وإما الردى!

فالحلّ يكمن في أن يعتمد الشعب الفلسطينيّ على نفسه وألا ينتظر من الآخرين أن يمدوا له طوق النجاة أو يد العون.
أما بعد:
فهذا تطواف سريع لا يمكن معه في أي حالٍ من الأحوال اختزالُ القضية الفلسطينية في جانبٍ ضئيل لا يوفيه حقّه، كما لا يمكن أن يُقتصر الحديث عن مضامين تراثية فلسطينية في كُلَيْماتٍ قليلة قد تكون قاصرة عن بلوغ المرام في التأكيد على تثبيت القضية الفلسطينية.
المصادر والمراجع:
1- البرغوثي، مريد (2011)، ولدت هناك ولدت هنا، رياض الريس للكتب والنشر.
2- الجبر، عبد الفتاح (2006)، الفلكلور الفلسطينيّ، مجلة ثقافات، البحرين، العدد18.
3- الساريسي، عبد الرحمن (1981)، الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني، مجلة التراث الفلسطينيّ، مجلد12، عدد6-7.
4- شحادة، حسيب (2003)، قاموس اللهجة العربية الفلسطينية العتيد: نظرات في قاموس البرغوثيّ، مجلة شؤون اجتماعية، مجلد 20، عدد79.
5- محمد، غسان نمر (2008)، إسرائيل والتراث الفلسطيني في القدس، تونس: جامعة تونس (رسالة دكتوراه).

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
فوّضته قَلبي، بقلم : رَغَد خالِد أبو خليف، “نصوص نثرية”
التالي
حلى البسكويت بالدريم ويب والنسكافيه

تعليق واحد

أضف تعليقا

  1. REEM.A.A قال:

    أحسنت ….كتبت فأبدعت وأمتعت وأفدت ….بارك الله بك

اترك تعليقاً