القصّة القصيرة

أوقعت محفظتك، بقلم: إبراهيم علي الساريسي

   كانت قدمايَ ترتجفُ كلّما تذكرتُ ما حدث لي في صغري، لطالما اعتقدتُ أنَّ هذه الذكرى تقفُ دائمًا في صفِّ الأرق ضدّي، هي لا تزورني إلا في الليل وتحضِرُ معها صوتَ الرصاصةِ ذاته وصوت ارتطامِ رأسِ أبي في الأرض أيضًا؛ ليسمرا معي إلى غسقِ الفجر .
   عندما كنتُ طفلًا كنتُ أشتعلُ لهفةً عندما يقتربُ يوم الجمعة، وبكلِّ صدق كان اليوم الوحيد الّذي أرى فيه أبي دون سائر أيامِ الأسبوع ، كانت أمي تقول لي كلَّ يوم أنَّ أبي أتى في الفجر وقبّل جبيني ثمَّ ذهب ، لكنّه بالحقيقة لم يكن يأتي ، كنتُ أستيقظُ قبلَ الفجر واصطنعُ النوم ولم يكن يأتي البتّة ، وعندما أراه صباح الجمعة أغدو كبَتَلةٍ تفتّحت زهرتها توافقًا مع شروق الشمس.
   ذات جُمعة ذهبتُ مع أبي إلى المسجد ، كنتُ أقفز فرحًا أثناءَ مشينا في الطريق ، عجبٌ أمرُ الدنيا تضحكني في ساعة وتُحزنني في برهة، بعدما انقضت الصلاة وهممتُ برفقةِ أبي لنخرجُ من الباب وبالأحرى عندما أضحينا على بعدُ خطوةٍ واحدة خارج ذاك المسجد، رأيتُ قنّاصًا .
   كان ذاك الصهيونيُّ القذر ممدَّدًا على معدته ومتَّكئًا على قناصه موجّهًا بها نحو الخارجينَ من عتبات المسجد، تجمّد لساني داخل حلقي فلم أستطع أن أصرخ ، فقط بدأت أُحرّك بنطال أبي إلى الأسفل وعندما انتبه لي رأى الجندي.
   لا زلتُ أذكرُ تمامًا كيفَ أنَّ أبي التفت إلى اليمين تارةً وتارةً نحو اليسار ولم يدرِ ما يفعل وأين يخفيني وعندما أحس أنَّ ذاك الوغدَ سيطلق، ضمّني وجعلَ ظهره مقابلًا للصهيوني ، ربما أحسَّ ذاك الغازي أنَّ أبي قد انتبهَ له ، فآثرت يده الظالمة أن تطلق، كنتُ أبكي في حضن أبي وعندما سمعت صوت إطلاق الرصاصة وشهقت أبي القوية توقف بكائي فجأة وخلال أقلِّ من لحظة ارتطم رأسه بالأرض .
   نظرتُ إلى أبي والدماء تقطرُ من فمه ، ثمَّ رددتُ بصري نحو ذاك القاتل، تمنيتُ لو كان حلمًا أو أيَّ يومٍ غيرَ يوم الجمعة ، اليوم الّذي يطوق المرء له ليرى أغلى ما يملك هو اليوم ذاته الّذي سيسلبُ منه فيه .
    ثلاثون سنة ولا زالت تلك الذكرى تراودني كلَّ ليلة ، ثلاثون سنة وأنا أراقب ذاك الغازي كلَّ يومٍ لأنتقم ، وعندما بلغتُ الخامسة والثلاثين من العمر كان عمرُ ذاك الجندي قد جاوز الستين، وحينها فقط تسنّت لي الفرصة ، كنتُ أقف على بعدُ عشرِ خطواتٍ فقط منه، أنظرُ إليه كيف يلهو مع أحفاده في ذاك المحلِّ التجاري ، التقمتُ حجرًا صلبًا في يدي وخبّأتهُ في جيبِ سترتي ، وبدأتُ أقتربُ بحذرٍ ولهفةٍ وبسمةٍ لم أحظى بها مذ مات أبي .
   كنتُ قد انتبهتُ أنَّ محفظتهُ وقعت خلفه فاتخذتها حُجَّةً للاقترابِ منه ، وما أن أصبحتُ على قيد خطوةٍ منه ،تلاقت عيناي مع أعين الأطفال الّذين كانوا حوله، فتذكّرتُ ألمي وحرقتي عندما وقع أبي أمامي، لا أدري ما حدث كنتُ متشوّقًا لقتله لكنّني عندما رأيت أعين الأطفال لم أجرؤ فوقع الحجر من يدي وأملتُ جذعي إلى الأمام.
وعندما انتبه إليَّ ذاك الظالم رفعت محفظته وقلت : تفضّل سيدي فقد أوقعت محفظتك .

إقرأ أيضا:حب الحديقة والمطر، بقلم: هداية الوريث، “قصة قصيرة”

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
الفحم الخشبي
التالي
إيعاز من الملك بخصوص عُمّال المياومة

اترك تعليقاً