خاطرة

ابنة كانون الأول والمطر بقلم سجى ياسر

“ابنة كانون الأول والمطر ”
19.12.2018
في ليلةٍ من ليالي الشتاء، كانت الغيوم مُثقلة بالمطر، ولكنها صامدة وهادئة جدًّا، كالطفل الذي قد أُبْرح ضربًا، ويبكي بصمت لكي لا يُصدر صوتًا، وضجيج جوفه لا يهدأ أبدًا، أحضرتُ كوب قهوتي المُعتاد الذي يسكُب الحياة في أناملي المُجمدة، وجلست مجاورةً لنافذتي .. وكتبتُ على نداها كُل مُرٍّ،سيمر وقع نظري على جذع شجرتي المُطلة على نافذتي مُباشرةً كيف أنها ما زالت مُتمسكة بأوراقٍ قليلة، رغم قساوة هذا اَلْبَرْد …
تذكرت !
إنهُ ذِكرى ميلادي اليوم، ولكنني ولأول مرة لا أطمح لأي شيءٍ، ولا أُريد أن أكتُب أمنياتي لهذا العام لكي أُحققها، لأنها تُكتب عبثًا !
فَروحي في هذا العام، بمعنى الكلمةِ قد انطفئت .
رويت لشجرتي حكايتي، التي بدأت بعجزي عن تحقيق حُلمي، وعملية والدي التي لا نعلم سيخرج منها حيٌّ أم …، وأن أُمي لا تنام ليلها من شدة ألمها، وأن حِملُ المنزل وإخوتي بات يَهْدِ جُدران قلبي ألمًا، وأن أخي الأكبر قد ضمت الغُربة جسده، وأن هذه المسألة مُعقدة جِدًّا، ومُعلمتي التي تنعاني بالمُهملة دومًا، وها أنا أكبُر عام ويكبُر الألمُ في قلبي أعوامًا لا تُعد ولا تُحصى!
وشجرتي مع كُل حكايةٍ رويتها تخلت عني بورقة !
حتى شجرتي، ذخيرتي الأخيرة خذلتني هذه الليلة .
وإنني من ضعف قوتي، وقلة حيلتي …
واللهِ إني بكيت!
فبدأت السماء تُمطر، وكأنها تبكي معي!
والمطر هو المواساة الربانيّة لِقلبي …

إقرأ أيضا:دنيا الجموع، بقلم : صبا راجي حامد العساف

غفوت وأنا أتأمل كُل حبةِ مطرٍ تسقط، تمنيت لو كُنت غيمة وآلامي تتساقط مني شيئًا فشيء، وأعود غيمةً بيضاء نقية !
أيقظني بزوغ فجرٍ جديد والمطرُ على حافةِ النافذة يروي حكاية جديدة !

عامًا من عُمري يبدأ الآن ..
فلتُكن حكايتي هذا العام حبة مطر تُروى بها روحي، وتُغسل شظايا ذنوبي !
6:00am
وعُدت بعدها لواقعي… دواء أمي، مُستشفى أبي، طعام إخوتي، دُروسي المُكدسة، وشفقة البعض على حالي !

بعد عامٍ من الجِهاد …
في ليلة الثامن عشر من ديسمبر شديدة المطر، وكأن ربّ الخير لا يأتي إلا بالخير، وكان المطر هو الخير لهذه الليلة!
أبي قد خرج من عمليته بكُل نجاح، ولم يحدث مُضاعفات بعدها أبدًا، ولله الحمد ! وأخي عاد من غُربته وأحضر دواءًا لِأُمي وعادت عامود بيتنا وسنده، وخففت ثقل كاهلي، ومُعدلي السنوي قد ارتفع ! وذخيرتي الأخيرة تساقطت أوراقها لتُخبرني أنه ما بعد الشّتاء إلا الربيع،وأن زهور قلبي ستُروى وتتفتح ..

وعادت أيامُنا أكثرَ حلاوة !
ففي التاسع عشر من كانون الأول ..
ها أنا أحيا من جديد!
تواجدنا هذه الليلة في كوخ جدتي، قبل أن يحل المساء ارتدينا قُبعات الصوف والقفازات التي أحاكتها جدتي بأناملها بكُل حُبّ، وخرجنا .. أمسكنا بأيدي بعضنا وبدأنا نطيرُ تحت المطر كالأحرار نرقص بفرحةٍ تغمر القلب، أغاني فيروز ورائحة التراب والياسمين بعد المطر !
والنسمة البادرة التي تهُب بعد كُل زخة، قد سرقت أوراق شجري وأغنيتي المُفضلة وقلبي أيضًا، بقينا حتى تبللت أرواحنا وأزهرت …
وإذ بجدتي تنده وتقول: لا تمرضوا يا أحباب فؤادي ..دخلنا وصوت ضحكاتنا يمتزج بالبردِ الذي جمد أوردتنا …
تراكضنا نحو المدفئة، ومن يسبق الأخر، جدتي تقول القطار قاااادم وأحضرت لنا الحساء، ولا سيما بالأباريق التي تملأ المدفئة من الماء إلى الحساء إلى زهورات الجَدة التي جمعتها لتُعد لنا شراب الشتاء الدافئ ..
شربنا حتى دفئت قلوبنا، فالغيثُ قد روى أرضنا وأحياها …
وبدأت تُجفف لي أطراف شعري المُبللة بأناملها الدافئة، وتحث يداي بيداها وتبتسم فتتكاثر تجاعيدها، تمنيت لو أن المطر يروي تجاعيدها لكي تُزهر وتبقى لنا للأمد البعيد !
صوت الحطب وهو يشتعل، وحكايا جدتي التي لا يُمل منها أبدًا، والكستناء التي نتناولها وهي تكاد أن تحرق أفواهنا، وللبطاطا الحُلوة قصةً أُخرى !
بعد مُنتصف الليل، جلسنا حول المدفئة والمطرُ يطرقُ على نوافِذنا بِطرقة المُحب الخفيف …
ليالي الشتاء أشبه بالجنّة الدنيوية !
ها أنا ابنة الشتاءِ المطر، كانونية القلب، وديسمبرية الروح، فأول أنفاسي أُخِذت بِه ..
فمن شتاءٍ إلى شتاء تحولت حكايتي من ليلة هادئة إلى غيثٍ غزير، جاءني من بعد سِنِين عِجاف ..
ما بين أحداث العامين، الجُزء المُشترك هو الشتاء !
فالشتاء هو الجدة والأُنس والحُب !
سجى ياسر

إقرأ أيضا:أَضحيت، بقلم: روان خالد الفاضل

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
ستشتاق لي بقلم هاجر رائد ابو دلاخ
التالي
لحظات بقلم براءة أسعد الحبايبة

اترك تعليقاً