مقالات ونصوص متنوعة

مَن أكون، بقلم : هيا حسن الكرد”نص نثري”

– من أكون؟

إنّي أرى المستقبل البعيدُ ولستُ بعلّامٍ للغيوب، لكنني أرى نفسي أجلسُ وحيداً بجوار شجرةِ نخيلٍ وحيدة مثلي، بجانبها القليل من الرّمال وكأني في صحراءٍ مهجورة ولكن صوت الضجيج يخبرني أني في المدينة وأني الوحيد هنا وحيد، أنظرُ للحائط الذي يفصلُ بيني وبين الحياة، حائطٌ يعبره الجميع ولكني أنا السّجين، أرى جميع الأحبة مغادرون، يتركوني عند تلك الشجرة ويلتفتون لي بشفقةٍ مدوية تبوح بها النفوس، وكأنّهم يرَوْن الموت يصارعني ويخيمُ فوق رأسي بيت عزاء، وألمح في طرف مقلتي بعضهم نظرةٍ من شماتةٍ محسومة، وكأني عدوهم منذ بدء الكون، أرى الرفاق يغادرون دونَ وداع، وأرى الجميعُ حولي يسخرون من تحول قوتي اللامتناهية إلى عدمٍ وفناء؛ وكأني خُلقتُ منذ الأزل من رَحم ذُلٍّ وضعفٍ وخنوع، تدور مُقلتاي في كل زوايا سجني الأليم، بحثاً عن شخصٍ واحد يَقتربُ مني ويُصبر الجُفون لكي لا تبكي دمعاً لا يَفنى، وضَربات فؤادي في تزايدٍ شديد، وكأنّ الحَياة والموت قد اجتمعا ليسّخَرا مني ومن كبريائي القَديم، ما عادت وجوهُ من أحببنا هُنا، ما عاد في سجني سواي، بل أعتذرُ قد نسيتُ تكريمَ الدّموع، لم تبرح قبلَ أن يكون لها في جفوني مكانٌ خالدٌ يدوم، قدّ ثبتت عليَّ الأَحزان، لم يصفح عني الزمان ولم تسامُحني الأيام، ولم تَراني عُيون الرّفاق، كلُّ من في الأرضِ أَرسلني لمنفى الموت، لستُ أرىْ الغيبَ لستُ بعلامٍ للغيوب، ولكن الصورة واضحةٌ جليّة وأراها بدون تشويش، أرى جميع الوجوه التي تضحك لي الآن تتبّدلُ لوجوهِ أشباحٍ مخيفة، تتلبسُ أقنعةٌ بشرية، سعياً لإحراقي أنا الضحية، أيا ليت يداً من بين الأيدي التي صفعتني قد امتدت نحوي بحنوٍ لطيف، أيا ليت أحدهم أخبرني أنه ليس بمغادرٍ ولم يعاقبني الجميع على ذنوبٍ أجهلها، ليتَ قلوب الأحبة لم تخون، ولم تنقضَ العهد الجميل، لو حدث أيّ منها لما أغرقتُ الدنيا بكاءً ولأزهرت في روحي الحياة، ولم أكن لأُصاب بالإنفصام، أتعلم كل الرؤى تتبدلُ أمامي الآن، أنا متواجدٌ تحت سقفِ غرفةٍ متشقق، وجدرانٌ معتمة وألم جسدٍ هزيل، أو قد نسيت قد كنت أرى المستقبل البعيد، يبدو أنّي أعاني ما بين الإنفصام والزهايمر أو يبدو أني تجاوزت الستين، يا ضيّعتي من أكون، يا ضيّعتي ما عدتُ أفرقُ بين الباءِ والنون، يا ضيّعتي قد ضاعت مني الحروف، وزاد السواد تحت العيون، وسخرت مني الدنيا بالقدر المعقول، وأني أرى ضريحي أقربُ لي من المستقبل البعيد، وإن كل الرؤى تتبدّدُ الآن، أخبرني من فضلك من أكون؟

إقرأ أيضا:القلب وما هوى، بقلم:فاطمة محمد الشرباتي

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
تلافيقُ الذّاكرة، بقلم : آية صلاح”خاطرة”
التالي
سرُّ سعادة، بقلم :دانيا اسماعيل المصري”نص نثري”

اترك تعليقاً