مقالات ونصوص متنوعة

جرح لا ضماد له، بقلم : رهف عثمان

وطنٌ مُدمى، حقوقٌ مَنكوبة، حرِّياتٌ مَسلوبة، ياسمينٌ مُهَّجر، وأرضٌ أكلَ عليها الزَّمان وشَرِب..
بدأت الرحلة؛ شدّوا الأحزمة جيدًا، فهُنا سوريا؛ بلدُ الياسمين المُغتصَب..
حربٌ زانِيةٌ نَتِنة حمَلَت الرَّصاص والقذائِف تسعَ سنينٍ مخضَّبَةً بالدِّماء؛ ليولَد الدَّمار والخَراب والألم،
وأيامٌ مُثقلةٌ بالتَّعاسة مُتَّشِحة بالحُزن، سُلِبَ منها الأمنُ والأمانُ والسَّلام،
هُجِّرَ الياسمينُ ونُثِرَ عبرَ بقاعِ الأرض، لتفوحَ رائحَتهُ دَمًا عفِنًا كريهًا، والحزنُ استَوطنَ حَنايَا القُلوب بنيرانٍ جارِحَةٍ من عابِرين قَد عاثَوا فينَا خَرابًا وَرَحلوا تاركينَ ذكرياتٍ أليمَةٍ، وَمواقِفَ لم تَرحَل من فِكرِنا ولا للحظةٍ واحدةٍ..
كُنّا الطَرفَ الباكي في كُلِّ الأحيَان، أهلَكَتنا الكلمَاتُ المَدفونَة في أعماقِنا خوفًا من أفواهِ المَدافِع، تَعِبَت أيدينا من أشلاءٍ تَطايرَت في الهَواءِ، وكلَّما احتَجنا للتَّنفسِ؛ أعطونا هواءَ الأحزانِ،
والكلماتُ غيرُ كافيَةٍ لوَصفِ شعورٍ واحدٍ تربَّصَ بداخلنَا..
تَهشَّمت قُلوبنا رَغمَ صِغَر حَجمِها -خبَّئت حكايَا لا يحتَملُها بَشَرِّيٌ عاقِل- إلّا أن أثرَها لا يُمحَى، فالشُّعورُ الذّي تَرَبَّصَ بنَا كانَ أَقوَى من أَن يَزول..
شهيدٌ هُنا، ومَفقودٌ هُناك..
معتقلٌ هُنا، ومغتربٌ هُناك..
وما بينَ هُنا وهُناك؛ قلبٌ بحجمِ الكَفِّ يَمشي في الرِّيح الشَّائكة؛ ليخدشَ الهواء شِغافَهُ..
كمّ هو مفجعٌ أن يبلغَ الإنسانُ مرحلةً يفقدُ فيها قدرتهُ على تصديقِ أيِ شيءٍ، أي شيءٍ على الإطلاق..
فالجرحُ لنْ يلتَئِم، والنُدبةُ لنْ تُنسى، والقلبُ غمدُ الذِّكريات، والحَربُ ستَرسخُ بذاكرةِ التَّاريخ..
في بلدي؛ هناكَ قِصصٌ لم تَحمِل مُقدِّمة إطلاقًا، وقِصصٌ لم تُختَم، ومِنها لم تحمِل حتّى عنوانًا واضحًا، دُفنت في مقابرِ القُلوب،
رصاصٌ هنا، وبنادقُ هناك..
أيتامٌ هنا، وثَكالى هناك..
قذائفُ هنا، ومجانيقُ هناك..
ودُّمرت البلادُ بين هُنا وهُناك،
وقِصصٌ كُثر؛ هيَ مَتاهاتنا الأبَديّة..
رجلٌ بالخمسِين يُراهِق، وشابٌ بالعشرين يقفُ على خطِّ المَوت، وعدِيمَةُ الأخلاقِ تنثرُ عُهرها لتكسبَ المال، وطِفلةٌ تُباع وتُشترى، وأجسادٌ تُتَاجَر بأعضائِها وتُواري الثّرى..
هُنا سوريا، بلدُ العائلات التي فرَّت من ويلاتِ الحُروب؛ ليبتَلِعها جَوفُ البحر..
بلدُ الأفئدةِ المَذعونةِ التي فَقدت قوَّتها على الثَّبات، وسمعَت أنّاتِها السّماء..
بلدُ السّكونِ والحروبِ الداميةِ التي تُلهِب الأنفسَ وتُذيبُ الأمنيات..
بلدُ رسائل الحنينِ الجارِف، وصوتُ النّحيب القاتِل..
بلدُ الثَكالى التي تتَّجرّعُ الموتَ في ثَبات، ومَنكوبين يَقتاتون علقَم الألمِ بلوعتهِ..
شوارعُ حَمراء، وحَواري بيضاء، وندمٌ يعصفُ بفتاتِ القلبِ المُتآكل..
هناكَ على مقربةٍ من الجِراح قلمٌ يلوّح، ويرسمُ سبيلاً للنَجاة؛ مريرٌ هذا البَوح، يَخنِقُني بعبراتٍ لا تَنهار، تتلاقى صدى الصَرخاتِ ونزفٍ من كلماتٍ على أعتابِ الشِّفاه تدورُ بينهُم حربٌ دامية، أيُّهم يخرجُ أولاً حتى تضع الحَرب أوزارَها بصمتٍ لا يَنفرِج!
هذهِ سوريَّتي..
ياسمينةٌ غارقةٌ باليأسِ
‏وعظيمةٌ جدًا
‏عظيمةٌ وطاهرةٌ
‏شوارِعُها تتَّخذُ شكلَ اليد
‏و تعرفُ جيدًا
‏كيف تُضمَّد..

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
فقدان، بقلم : سمير حصري
التالي
لوحة فنية، بأنامل: مجد عماد الزاقوت “فن الرسم”

اترك تعليقاً