مقالات ونصوص متنوعة

الذبيحُ الملعون,بقلم: إيڤان خاز”قصة قصيرة”

في أحد الأحياءِ المتراميةِ على أطراف الوطن “هاجِر” كوخ صغير، له بابٌ مخلوع، ذو لونٍ أخضر مزركشٍ بالصدأ والأتربة، وسقفهُ من لوحاتِ الألمنيوم (توتيا)، يطلُ على الشارع المحفَّرِ بنافذةٍ واحدة، كُسر زجاجها منذ زمن؛ فخيطَ بالأسمالِ البالية، وباتَ لعبةً في يديّ الرياح الصفراء، تلهو به يمنةً ويسرة، وفي يوم يتشحُ بغبار الفراقِ المعهود، خرجتُ وجلست على المسطبة _المتآكلةُ أطرافها_ أمام كوخي الهرم، أرفع قميصي وأرمقُ جروحي النازفة التي لم تندمل بعد، لحيتي طويلة سوداء مخضبةٌ بدمي، شعثاء كثة، وشاربايَ يُدثِّرانِ بطولهِما شفاهيَ العطشى المتشققة، وعينايَ غارتا في محجريهما محاولةً الاختباء من جرفٍ سحيقٍ أسقطتُ فيه نفسي، كنت بحاجة لغريب أرمي بثقل همومي على مسامعه، وألوذ بالفرار بين أزقةِ البيوت الباردةِ كقلوب أصحابها؛ لتشيّع رحيلي بلا عودة، قاطع لُجَّ أفكاري، أطفالٌ يلعبون بالقربِ مني، دنا أحدهم ليحاول قراءةَ ماكُتب على جدار منزلي الذي أخالهُ سينقضُّ بعد بضع سويعاتٍ حزنًا على حالي، كان واضحًا أنّه أمِّيٌ لا يجيدُ القراءة بشكلٍ جيد، ضيّق عينيه اللتين احتضنتا العبارة كأمٍ تتلقفُ مولودها الأولَ بأحضانها الدافئة..
“من يح من يحب وط وطنه سيو سيق” اقترب ليمسح آثار الغبار عن الكلمة الأخيرة براحة كفيّه الحريريتين، ارتسمت البسمة على وجهه القمري كأنه أزاح الغبار عن وجهه لا عن الحائط وقرأ بصوت عالٍ: 
“من يحب وطنه سيقتل” بدأت تتلاشى البسمة معلنةً الانشقاقَ عن الحياةِ والأفولَ إلى غياهبِ الفناء بقسوة، اقتربَ من المسطبة وجلسَ قاذفًا نفسهُ في بحارِ الأفكار المغرقة، وأظنهُ لا يريدُ إنقاذ نفسه، بل البحثَ عن مفاتيحِ التوابيت المقفلة التي ترقد في قعرها..
_هل تود أن أخبركَ قصتي يا ولدي؟ لم يجبْ، أردفتُ قائلًا: حسنًا دعني أقصُّ عليكَ حكايتي..

إقرأ أيضا:خاطرة بقلم الاسم سمية محمود عامر

مشيتُ بعدَ يومٍ مشؤوم، على الطريقِ المؤديةِ إلى ساحة “ربكمُ الأعلى” التي سيقامُ فيها حفل زفافِ خطيبتي من ابنِ تاجر القماشِ الفاسدِ المعروفِ في حينا، كانت قدماي تغوصانِ في الحفرِ ومائها الآسنِ المتجمع فيها، بصقتُ آلافَ المراتِ على البلديةِ وحكومةِ دولة “هاجِر” اللصة، أتهادى مثقلًا بالكلامِ المكلوم الخانق، رأيتها تُمسكُ بيدهِ ويتسامرانِ الحديثَ ويتبادلان القبل، والجمع يشيرُ إليهما ويصفّق، أبوها كان يلعنني ويشتمني، وأمها تدعو عليَّ بدخولي جهنم، وأحد أصدقائي كان يقول: ((من الجيدِ أنَّها لم تتزوج الخائن ذاك)) أظنُّه تجنَّب ذكرَ اسمي الكريهِ؛ لئلا يشمئزَّ وتتحمضَ معِدَتُه، دنوتُ من المحبوبة، ودَّعتها بوعودها المقطوعةِ لي، أدرتُ ظهري وعدتُ أدراجي وحرائقُ قلبي المشتعلةِ لا زالت تتأجج بضراوة، أنحدرُ انحدارَ الدمعِ من العيون، على رصيفٍ ممتعضٍ قذفني بعيدًا أمامَ سجن العاصمة “اُنكسْ”، دخلتُ إلى الزنزانةِ رقم “٧” التي مكثت فيها ستَّ سنين مهلكات، لم ألحظ أحدًا جديدًا، فبالرغمِ من موتِ جميعِ من كان برفقتي، إلّا أنَّني رأيتُ نفس الوجوهِ المحفَّرة بأخاديدِ العذاب، والأجسادَ المداسةَ ببساطيرِ الحيونةِ والشيطنة، تأوهاتٌ مستمرةٌ لم تتوقف منذُ تشييدِ المكان، كانت الدنيا منقسمةً إلى شقَّين، شقُّ السجانينَ المتيقظين، وشقُّ الشعوبِ النائمةِ الذين تحسبهمْ سكارى وماهم بسكارى، خرجتُ غاضبًا أرى تحتَ أشجارِ السوءاتِ أناسًا تشوي لحومَ الجيف، وأخرى منكبَّةً شفاههمْ على جسدِ مومسةٍ سافرة، تلعقُ ألسنتهم عرقها المتصببَ إثر نشوةٍ مفرطة، كاد صدري ينفجرُ لحبسهِ الهواء المعبأَ بالسمومِ في هذهِ البقعةِ من الأرض الفانية، حتى لفَحتني نسمةٌ ربيعيةٌ رقيقة، حملتني كما تُحملُ الريشة الخفيفة أمامَ منزلِ أمي الراحلة..
_وقف الطفل التائه فجأة، يحكُ رأسه تارةً وأخرى يضع يديهِ خلف ظهرهِ يذهب ويجيء أمام المسطبة، كأنَّ الأمواج تلطمهُ لشواطئ الحيرةِ والضياع، ثمَّ جلسَ كمستمع في إحدى خطب الشيخ “لَعوب” يستمعُ بكلِّ حواسهِ المتعبةِ من كذبهِ ودجلهِ وتبجيله للصعاليك والرويبضة..
هل أكملُ يا غلام؟ لم يجب؛ فأكملتُ متجاهلًا ضجرهُ وملَلَهُ..
دخلتُ منزل أمي وقبَّلتُ صورتها المعلّقةَ ببروازٍ مخضرٍّ كجنانِ الله الوادعة، صليتُ على سجادتها المبتلةِ إثرَ دموعِ الحرقةِ المميتةِ التي ذُرفت على غيابي، دعوتُ لها وخرجتُ راكضًا ألهثُ من شدةِ جورٍ لحقَ بنا لأجلِ وطنٍ كان يبصقني، ويريد لفظيَ خارجهُ لئلا أداسَ بأقدامٍ كَبُرت نمرةِ أرجلها بسببِ ركلِ وسحقِ أمثالنا كالحشرات، كان جرمي يا بني، أنَّني أردتُ فردَ أجنحتي، والتحليقَ فوقَ سماءِ وطني الحبيب، أعانقُ غيماتهِ البيضاء، أراقصُ حباتِ مطرهِ المتلألئة، كان جرمي هفوَّ نفسي إلى علياءٍ ترتقي بي وبأبنائهِ الممضوغينَ بأفواهٍ جشعةٍ ذات رائحةٍ كريهة..
واخترتُ الموتَ في سبيله، واخترت البقاء لمراقبة الأجيال اليافعة بصفقةٍ مع عزرائيل قابضِ الأرواح، على أن يقبضَ روحي من بين براثنِ الوحوشِ ويطلقها في العراءِ بينَ كثبانِ الساهين عن الكرامة والرفعة، ولكنَّني ندمت، وياليتني اخترتُ الحواصلَ الخضرَ كأصحابيَ المنسيين منذُ سنين غابرة..
وقف الطفل ضاربًا بحيرتهِ عرضَ الحائط، وغادرَ ليسأل شيوخَ الحيّ عنّي..
بعد نصف ساعة..
عاد إلى الجدار، وقفَ قبالته، فتح سحاب بنطاله المرقع، أخرج قضيبه الصغير وبال على الحائط والعبارة.

إقرأ أيضا:طريقة عمل المكرونة

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
تاجر النوادر ,بقلم : موسى الملا”نص”
التالي
إنفصام, بقلم: هدية الله سامر حمر”خاطرة”

اترك تعليقاً