مقالات ونصوص متنوعة

نص نثري بقلم :آية عوني طه

العنوان :جحيمٌ يقتحِمُ النَعيم
نوع النص :خاطرة
مسلخةٌ بشريّة تحدثُ في وسطِ المدينة، جُثثٌ تنتشِرُ في بقاعِ الأراضي الواسعة رؤوسٌ وأطرافٌ مُتطايرة كأنها سربٌ من الطيور المهاجرة، دماءٌ تُغرِق سكان الحيّ كأنه حدث للتو فيضانٌ ليبتلع البشرية جمعاء، قذيفةٌ تسرقُ الأشخاص من أحضانِ الرُكام الذي تفوحُ منهُ رائحةَ الأحباء الباكيين من الحياة القاسية المُرعبة إلى الموت مع إبتسامةٍ تُزينُ وجوههم المُنيرة المُبشرةُ بالنعيم،ضربةٌ قويةٌ على الرأس ومن ثم غيبوبةٌ إلى حد الصدمةِ والآلم،إلى وقتِ الإعتقال والتعذيب، أظنُ أن يوم الحِساب قد جاء إنها النهايةُ لا محالة، نهايةُ عالمِ الإنس و دناوةِ البشر وقذارتِهم التي أغرقت أرواحنا بالتعاسةِ والألم الذي أصبحت قلوبنا تفيضُ منه، لكن لِحُسن الحظ هنالك وقتٌ إضافي لنغرق بشكل أكبر في الآلم و لنتذوق النعيم الأكبر، إستيقظتُ على سكبِ ماءٍ باردٍ على وجهي، صرختُ حتى شعرتُ أن أحبالي الصوتيةُ تمزقت لكن لا فائدة من صراخيّ خطواتٌ ثابتةٌ ناتجةٌ عن أحذيةٍ ثقيلة الوزن يبدو أن أصحابها مُحاربين، عينايّ مُغلفتانِ بستارةٍ تحجِبُ عني رؤيةُ الجحيم، لاحظتُ أنني لم أكُن وحيد حيثُ أنني شعرتُ بأنفاسٍ بشريةٍ تحومُ حولي كأنها تُنافسني لمواجهةِ الهدف الذي لطالما كان رايةً لجميعنا، رُفعت تلك الستارة التي كانت تُغطي خيط الرؤيةِ التي لطالما دفعني نحو الآمل والنظر على أن القادم أجمل، كان معي ثلاثةُ أشخاصٍ آخرين،جميعُنا عُراةٌ بشكلٍ كامل، ننظرُ في الأرضِ نرتجِفُ حياءً من البرد والخجل، نرتجِفُ رجفةَ تأرجحِ خُروج الروح وبقائها، نتألمُ إثر تعليقنا مُكبلين من معاصِمنا في السقف، يقطرُ أسفلُنا أسلاكٌ كثيرة شائكة يبدو أن الرحلةَ نحو الموت قد بدأت، النورُ خافتٌ بطريقةٍ مزعجة للأعين،صراخٌ وصعقاتٌ كهربائية عِدّة من مختلفِ الآماكِن ، بقينا معلقين نبكي ثلاثةُ ليالٍ كاملةً دون أيِّ رشفةِ ماءٍ أو طعام، كان بيننا شخصٌ كبير في السن يبلغُ ما يقاربُ الخمسين من عمره، كان جسدهُ هزيلٌ للغاية لكنه كان ثابتًا بطريقةٍ تجعلهُ لا يكُف عن ذِكر الله، لم يذرف دمعةً واحدة أثناء تعذيبه،أظنُ أنه تلقى أكثر عددٍ من الصفعات والصعقات الكهربائية بيننا لكنه كان ثابتًا لم يتأرجح لم يطلب منهم أن يتوقفوا حتى، كان ينطقُ الشهادة بإستمرار يطلبُها بإبتسامةٍ عريضةٍ للغاية، مرّ أسبوعانِ مُنذُ آخر حُضنٍ للهواء الطلق المليء برائحة الدماء والحُطام، دماءُ الأحبابِ والأمهات، تم وضعُنا في غرفةٍ مُظلمةٍ للغاية تُشبهُ المتاهة، حيثُ أن الزوايا تقطِرُ دمًا من مكانٍ مجهول، نستيقظُ على صدى صُراخِ ضحية مِثلُنا،تعالى صوتُ معداتِنا من كثرة الجوعِ والآلم، باتت الأيام والتواريخُ متشابهة حدّ الجنون،كان لنا حِصةً كبيرةً من الفزع والضرب بشكلٍ مريب مُميت، من تجمدِ الحواس التي لم تعُد لها أيُ فائدة، تغلل البردُ إلى عظامِنا فخسر بعضُنا قدرتُه على المقاومة كُليًا، وخسرّ بعضُنا الآخرُ جُزءًا من جسده،خسرتُ أنا ذراعي وشخصٌ بُتِرت قدمُه،حتى بدأنا نُفْقَدُ واحدًا تلو الآخر كُل شهرٍ نُفجعُ على خبر وفاةٍ بطريقةٍ لا يُمكنك تخيلها، نموتُ دون توديعٍ ولا ترحيب، نموتُ فقط لنرتاحَ من الخوفِ الذي إستوطن فينا،لم يستحمل ذلك العجوزُ سوا سنةٌ واحِدة من الإعتقال فهمم كجثةٍ مُزهرة يفوحُ منها رائحةُ الأزهار التي حُرمنا من شمِّها مُنذ زمن، مات من كثرةِ التعذيب أمام أعيُننا، كان رمزًا وقدوةً لنا عندما نضعُف، كانت الصلاةُ والدعاء مُسكنًا لأياميّ حتى تم الإفراجُ عني بعد ما يُقارب الخمسة عشر عام تغللّ الآلمُ بداخلي إعتدتُ الخوف في وطنٍ تُصبحُ حقوقك فيه أن تحيّا بأمانٍ فقط، لكن ما يُثيرُ جنوني بشكلٍ كبيرٍ أنني لم أتوقف عن ذرف الدموع رُغمُ أنني لا زلتُ أقطرُ المنزل وما كانت هذه إلا سوا تهيآتٍ وخيالاتٍ تُداهِمُني كُل لليلةٍ،حتى أنني إعتدتُ عدم إستخدام ذراعي تلك التي لطالما كان عقلي شاهدًا على بترها ولكنها رغم ذلك لا زالت موجودة، كيف لي أن لا أتخيل كُل هذه الأحداثُ وأنا أقِفُ صامِتًا مُتأمِلًا أخبار اليوم أمام شاشةِ التلفاز، أتأمُلها مستشعرًا الأحداثَ بقلبٍ يرتجف !!.

إقرأ أيضا:أكبر حديقة في العالم

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
نص نثري بقلم: منار هارون المراعيه
التالي
نص نثري بقلم سلمى صدراوي

اترك تعليقاً