مقالات ونصوص متنوعة

عشر ذي الحجة اغتنموها ولا تضيعوها.

 


من فضل الله تعالي على عباده أن جعل لهم مواسم للطاعات تتضاعف فيها الأجور ولحسنات، وترفع فيها الدرجات، ويغفر فيها كثير من المعاصي والسيئات، فالسعيد من اغتنم هذه الأوقات وتعرض لهذه النفحات.

 فها نحن نعيش في هذه الأيام مواسم الخيرات والطاعات التي أكرمنا بها رب الأرض والسماوات مواسم الصلاح التي يُضَاعف للمؤمنين فيها من الأجور والأرباح، وهذه هبات ربانية لا تكون إلا للأمة المحمدية أمة العمل القليل والأجر الكبير والفضل العظيم.

 

ومن مواسم الخير والطاعة والعبادة: العشر الأُول من ذي الحجة

فقد نوَّه القرآن الكريم بفضلها، وأسفر صبح السنة النبوية عن شرفها وعلو قدرها.

أخـرج البخـاري والبيهقي واللفظ له من حديث ابن عبـاس ـ رضي الله عنهما ـ

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشرـ قالوا: يا رسول الله. ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء”.

وفي إحدى روايات البيهقي:

“ما عمل أزكي عند الله ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشْر الأضحى”.

إقرأ أيضا:أقوال مأثورة/ ديفيد هيلبرت

وأخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال:

” كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له الأعمال فقال:”ما من أيام العمل فيهن أفضل من هذه العشر”قالوا: يا رسول الله. ولا الجهاد في سبيل الله؟ فأكبره فقال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يخرج رجل بنفسه وماله في سبيل الله، ثم تكون مُهْجَةُ نفسه فيه. (حسنه الألباني)

 

قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ في لطائف المعارف:

وقد دل الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء.

وقال أيضاً:

إذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلها، صار العمل فيه وإن كان مفضولاً أفضل من العمل في غيره وإن كان فاضلاً، ولهذا قالوا:

“يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد”

 ثم استثني جهاداً واحداً هو أفضل الجهاد فإنه سُئل صلى الله عليه وسلم: “أي الجهاد أفضل؟، قال: من عقر جواده وأهريق دمه، وصاحبه أفضل الناس درجة عند الله”

إقرأ أيضا:حكم العقيقة

  (أخرجه أحمد وحسنه الألباني في الصحيحة:552)

وأخرج ابن حبان بسند صحيح صححه الأرنؤوط:

“أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو يقول: اللهم أعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين.

قال: إذن يعقر جوادك وتستشهد”.

فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر، وأما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله عز وجل منها وكذلك سائر الأعمال.

وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره.

ثم قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ:

 ما فعل في العشر في فرض فهو أفضل مما فعل في عشر غيره من فرض، فقد تضاعف صلواته المكتوبة، على صلوات عشر رمضان، وما فعل فيه من نفل أفضل مما فعل في غيره من نفل. أهـ

ولهذا كان السلف أحرص ما يكونون على اغتنام هذه الأيام.

فقد أخرج الدرامي بسند حسن عن سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ:

أنه كان إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى لا يكاد يقدر عليه.

إقرأ أيضا:خُرافات جَدّتي، بقلم: آلاء المصري”خاطرة”

وقـفـة:

من المعلوم أن هذه الأيام العشر تقع في شهر ذي الحجة، وهي من الأشهر الحرم التي قال الله تعالي عنها: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } (التوبة:36)

 

وثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال:

“إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع، فقال في خطبته: ” إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرُم. ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان”

ما يستحب من العبادات فيها:

وقد استحب السادة العلماء أعمالا يفعلها المسلم في هذا الموسم الجليل.. فمنها:
أولا: الحج 
إن من أفضل ما يعمل في هذه العشر حج بيت الله الحرم، فمن وفقه الله تعالى لحج بيته وقام بأداء نسكه على الوجه المطلوب فله نصيب – إن شاء الله – من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما. والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة](متفق عليه).

ثانيا: الصيام
فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة كاملة، أو ما يقدر عليه منها؛ لأنه من أصلح الأعمال أولا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومها ثانيا.. فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر…](النسائي وأبو داود وصححه الألباني).

ثالثا: صوم يوم عرفة لغير الحاج
وهو وإن كان من أيام التسع إلا أننا خصصناه بالذكر تنبيها على فضله ففيه زيادة أجر ورجحان مثوبة.. فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ](أخرجه مسلم). فلا يفوتنك أخي المؤمن هذا الأجر العظيم.

رابعا: الأضحية يوم العيد
وهي سنة مؤكدة لمن وسع الله عليه وقدر عليها، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: [ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ ،وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا](متفق عليه). والصفحة هي جانب العنق..

والسنة أن يشهد المضحي أضحيته، وأن يباشرها بنفسه، وأن يأكل منها شيئاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وإن وكَّل غيره كالجمعيات والهيئات الخيرية جاز، ولو كانت خارج البلاد.. وتجزئ الشاة عن واحد والبدنة أو البقرة عن سبعة.

خامسا: الإكثار من التحميد والتهليل والتكبير
فيسن التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح، وسائر أنواع الذكر، في أيام العشر. والجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى. ويجهر به الرجال وتخفيه المرأة؛ قال الله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}(الحج/28). والجمهور على أنها أيام العشر كما جاء عن ابن عباس وغيره.

وفي المسند عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد] (وصحّح إسناده العلامة أحمد شاكر).

والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة ـ ولاسيما في أول العشر ـ فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به إحياء للسنة وتذكيراً للغافلين، وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.

سادسا: التكبير دبر الصلوات
وهذا أيضا مما يسن في هذه الأيام ومن صالح العمل فيها، ويبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وهو الثالث عشر من ذي الحجة. فعن شقيق بن سلمة رحمه الله قال: “كان علي رضي الله عنه يكبر بعد صلاة الفجر غداة عرفة ثم لا يقطع حتى يصلي الإمام من آخر أيام التشريق ثم يكبر بعد العصر”(أخرجه ابن المنذر والبيهقي. و صححه النووي وابن حجر). وثبت مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قال ابن تيمية: “أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر من فجر عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة”(مجموع الفتاوى:24/20).
وقال ابن حجر: “وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود: “إنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى. أخرجه ابن المنذر وغيره والله أعلم” (الفتح:2/536) .

أما صيغة التكبير
أ) الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر كبيرًا.
ب) الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. والله أكبر. الله أكبر ولله الحمد.
ج) الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. والله أكبر. الله أكبر. الله أكبر ولله الحمد.

وهذه الصيغ ذكرها كلها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله..
وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح أثر ابن مسعود رضي الله عنه: “أنه كان يكبر أيام التشريق: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، و الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد”.

سابعا: سائر أعمال البر
كالصدقات ونوافل الصلوات، وصلة الأرحام، ومراعاة الأيتام، وكل عمل صالح سواها، فهي كلها داخلة في العمل الصالح الذي هو في هذا الشهر أفضل من غيره.
فلنبادر باغتنام تلك الأيام الفاضلة، قبل أن يندم المفرّط على ما فعل، وقبل أن يسأل الرّجعة فلا يُجاب إلى ما سأل. نسأل الله أن يديم علينا أيام النعم ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

واعلم أخي الحبيب…

إن هذه المنح والعطايا والعبادات رزق يرزقه الله لمن يشاء من عباده، وهم الذين طهرت قلوبهم على الإيمان بالله، واستقامت أبدانهم على متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبوا طاعة الله فأكرمهم الله تعالي بفضله.

وهناك صنف من الناس أهانهم الله بعدله: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } (الحج:18)

فأُحذِّر نفسي وإياكم أن نكون من هذا الصنف.

اللهم أكْرِمنا ولا تهنَّا.. وأعطنا ولا تحرمنا.. وانصرنا ولا تنصر علينا.. واهدنا ويسِّر الهُدى إلينا

واغفر لنا ولآبائنا وللمسلمين أجمعين..

وبلغنا هذه الأيام المباركة لأعوام عديدة، وأزمنة مديدة، ونحن سالمين غانمين، واجعلنا فيها من الطائعين.. وأسألُ الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

اللهم إن الفضل منك ابتداءً والحمد لك انتهاءً على ما وفقتنا وهديتنا.. أنت ولينا في الدنيا والآخرة. أحينا طيبين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين،

واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين.

وبعد…

فهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه الرسالة

نسأل الله أن يكتب لها القبول، وأن يتقبلها منا بقبول حسن، كما أسأله سبحانه أن ينفع بها مؤلفها وقارئها ومن أعان علي إخراجها ونشرها……إنه ولي ذلك والقادر عليه.

هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادع لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثمّ خطأ فاستغفر لي

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
الفراق،بقلم:نغم يوسف العمايرة”نصوص نثرية”
التالي
تفسير الحلم

اترك تعليقاً