مقالات ونصوص متنوعة

شغفهُ أبا ، بقلم : إيمان إبراهيم الترتير

شغَفهُ أَبـا

يتجّول بينَ جُدرانِ غُرفته الضيّقة ذهابًا و إِيابًا ، تَجوبُ ملامحُه الكهلةُ أَقطارَ حُجرته التي قد عاثَ عليها الزّمن ، جُدرانٌ باهِتةٌ
كَسُحبَةٍ ديسمبِرَيّةٍ أُثقِلَت بالجّوى ، لِيَستَقرّ بَصرهُ على صورةٍ توسّدت أحدَ الجُدرانِ ، بيدَ قِدمها إلّا أنها تبدو جديدة ، كيفَ لا و قَد لَمَّعها لِما يتجاوزُ الثلاثينَ مرّة هذا الأسبوع !

صورَةٌ يظهَر أنها أُخذت مِن إحدى كلاسيكيّات الأدبِ الإنجليزي يَظهرُ فيها طفلٌ يُناهِز الثالِثَةِ من عُمرِه تقريبًا ، ببشرةٍ قمحيّةٍ اكتَستْ سُمرةً لذيذة بأنفٍ بُندقيٍّ و ملامِح ريفيّة توّجت بِضِحكةٍ ربيعيَّةٍ تنبِضُ بالحياه و شعرُ كستنائِيٌ يدنو مِنه عَينانِ لوزيتان  .

يُقصنِفُ عَجوزُ عيناهُ في وَهن ، ليَتأمّل تِلكَ الملامِح الّتي أشجَت فُؤادَه مِن فرطِ الحنين ، راودتهُ الأَشوقُ عن قَلبِه فقدَ شَغفهُ أبًا ، ازدحمت مُقلتاهُ بالعبراتِ التي سُرعانَ ما مَحقها لِيَلمَحَ ساعَتَه ، كيفَ نَسي أنها في رُسغِه الأيسر ؟ بيدَ أنه ليسَ بأشتَف !  لِيُسارِع بارتداءِ مِعطفه الكَثّ و قبعته الرّسميّة البسيطة بعدَ أن صففَ شعافيلَهُ المُبعثَرة متوجهًا للحديقةِ للقاءِ تِلكَ التي  سَبقتهُ مُنذُ ساعات ، لَم يَعرفْ كيفْ يُناديها رغمَ أنها تبدو مألوفةً جدًا لديه ، لقد أخبرهُ جارهُ أثناء خُروجه أن زَوجته تنتظرهُ بالحديقةِ المجاورة ، إنها هي على الأرجح .

إقرأ أيضا:تحضير رز البرياني

جلسَ حذوها دون أن تَنطِق ببنتِ شفه ، مَرت لَحظاتٌ من الصمتِ قَبلَ أن يَقطَعه صوته الرَخيم ، بعدَ أن إرتَسمت على مُحياهُ إبتسامةٌ تُشبه السَّــلام  ؛

: أتتذكرين ؟ عندما جَلبناهُ إلى هنا لأولِ مرة ؟ مِن المؤكد أنك لا تتذكرين ، دعيني أُخبركِ ، حدث ذلك في السّابعِ و العِشرين مِن شهر فِبراير قبلَ قُرابةِ العقدين ، اصطَحبناهُ إلى هُنا لأنه لَم يَعرف مَعنى كَلمة ” أُرجوحة ” فأردنا أن نُريهِ إياها عَن قُرب ، ضَحكنا يومها كثيرًا رُغمَ أَن طَهوكِ لَم يَكن يروقني آنذاك ، يليها بِشهرين ابتَعتُ لهُ دراجةً بُرتقاليّةَ اللون و جلسنا على قارعةِ الطُرق نتناوَل المُثلجاتِ و نعدُّ الحافلات ، بَعدها أَلحقتُه بالمدرسة لِيُصبِح طاهِيًا و يُخلصنا مِن طَعامِك القبيح ..
هل أخبَرتُك مِن قبلُ أنني مَن علمتُه قيادةَ الدراجة ؟ لقد كانت خضراءَ بأجراسٍ مُلونة ، كانَ ذلك قبلَ أن يَهجُرنا و يُسافِر على مَتنِ طائرةٍ كبيرةٍ إلى كليفورنيا ، هل تتَذكرين !!

أَلم أُخبركِ سابِقًا أنني بأحسن حال ، وأنني لست بِحاجَةٍ لِكلّ تلكَ الحبوبِ اللعينَةِ التي أَتناوَل العَشراتِ منها كُلّ يوم ! أنا بخير جدًا و ذاكرتي بكامل صحّتها ، حتى أنني اذكر لون الدراجَةِ التي اقتَنيتها لَه ، كانت حَمراءَ بدواليبَ كثيرة ،أنا لستُ عَليلًا ، أنا محضُ مُسنٍّ يَشتاقُ لإبنه فحسب ، ما الضرارةُ في ذلك !!

إقرأ أيضا:الفرق بين حركة الجنين الذكر والأنثى

لاحَ على وَجهها طيفُ إبتسامة عَقيمٍ لِتندَه بأسى تشقُّ صَمتٍها المَديد ؛

: عـزيزي إنها أحداثُ رِوايَتنا المُفضلة فَحسب ، نَحنُ لَم نُنجِب أطفالًا ..

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
انتفاضة الرّوح تتكلم، بقلم: رنا هيثم شعبان
التالي
ذاكرةٌ سرمديّة ، بقلم : سارة نضال العورتاني

اترك تعليقاً