مقالات ونصوص متنوعة

نصوص نثرية بقلم صلاح محمد عبدالله

*هدية تشرين الجميلة*
في كل مرة يأتينا شعورٌ ما، أحياناً مختلف عن سابقه وأحياناً مطابق، يولد فينا من بسمة، أو نظرة، أو مقطع من أغنية شاعرية، وربما من كلمة، ولكنه أبداً لم يتجاوز مقدار نبضتين قلبيتين دافئتين، ولكن هذه المرة الأمر اختلف، فما يدور فيَّ كأنه نهاية لعصر المشاعر العابرة وبداية لا نهاية لها من عصرٍ جديدٍ يحمل ما لا يُمْكن حمله من مشاعر أكثر دفئً بالرغم من بدايةِ شتاءٍ جديد، وإقبال الأيام التشرينية التي تُعتَبر حلقة تحول وفترة هبوط لمؤشر الزئبق، بعد أن كان يتصدر المحطات الأكثر علوّاً في هذا العام .
ما كنت أتصور بأن يأتي يوم يتأثر به الزئبق ولا أتأثر به أنا، والإختلاف واضح هذه المرة، فأسطورة الصدف التي كثيراً ما قللت من شأنها ووضعتها موضع الإهمال جاءت الآن لتثبت لي خطأي وخطأ معادلتي التي بنيتها على حقيقةٍ ظاهرة، واستثنيت منها تلك الأقدار التي تُرسَل لنا من وحي الغموض الدنيوي، فعلت بكل مقدرتي لأجد ما أريد من خلال الجهد، ولكنني غَفِلْت عن فكرة أن أقوم بالإنتظار ولو قليل، فشبح الوصول يناديني دائماً لأبذل جهدي كي أصل وأُحصِّل .
ما كنت يوماً أؤمن بحقيقةِ الصُدف حتى جاء تشرين بأجمل صدفةً في الوجود، وأثبت لي أن رُب صدفةٍ تُعوضُ صاحبها عن آلاف السنين من الجهد المبذول في سبيل الوصول إلى المقصَد، ورُب صدفةٍ تنقلك من زاوية البئرِ إلى أعلى باحة في سماءِ هذا الكون، أو صدفة تفرض نفسها عليك لتجعلك تخالف كل القوانين الفيزيقية والميتافيزيقية حتى، والتي بدأت معي بمخالفة ذلك الزئبق الذي انخفض وحده وتركني عالياً برفقةِ صُدفتي الجميلة التي خطَّت لي طريقاً طويلاً من السعادة، وصَبَغَت طموحي بطيفِ الإنجازِ المتعدد الألوان والمناظر .
لم يأخذ هذا الإنجاز سوى الجهد المبذول في راحةِ الإنتظار في محطة الصُدف الكونية، والتي جاء تشرين بصحبةِ أجملها…
إنها معادلة جديدة عليّ، ما كنت أتوقعها يوماً، ولكن هذه المعادلة استطاعت أن تستقرَ فيَّ وأن تأخذ صدارة صفوف اهتماماتي وصدارة مصادر هنائي…
حقاً رُب صدفةٍ تأتيك من وحي الغموض خيرٌ لك من ألفَ محاولةٍ أخذت مكانها من النورِ، ولكنها استقرت في نهايةِ المطاف في زاويةِ بئرٍ هجره ماؤه ليبقى هذا البئر وساكنيه في ظمأ المعادلة التائهة…
جاء تشرين حاملاً لي في أيامهِ الأولى أجمل ما كنت أتمنى، لدرجةٍ جعلتني أشك بأنها خدعةٌ من خدعِ هذا الفصل المتقلب، إلا أنها حُسمت؛ فقلبي شاهد ما هو أكثر من نبضتين دافئتين، إنه الآن يعجز أن يُكمل عدّ نبضاته الدافئة؛ حيث انتهت الأرقام جميعها في الليلةِ الأولى، وما كادت أن تُصبح حتى تُعيدُ هذه الأرقام نفسها من جديد، حتى صارت تُعيد نفسها بعد كلِ كلمة من تلك الهدية التشرينية، وبعد كل رعشة من قلبي الذي لم يتحمل حتى تُيِّم بها، وبعد كل ذرة غاز تدخل إلى رئتيها حين الشهيق وأحسُّ بخروجها حين الزفير بالرغم من طول السافات بيننا…، أشكرك تشرين، وأشكر الإنتظار، وأشكر السعادة التي عادت إليّ من بعد هجرانٍ طويل، وهنيئا لقلبي بهديتك… .

إقرأ أيضا:كيف اهتم الاسلام بالعقل و العلم

*************************

رآها قلبي من قبل…
بعد أن قررت أن أنهي هذا النص، أشعلت سيجارتي ووقفت أمام مرآتي أتأمل ذاتي…، ساد صمتٌ عميقٌ في داخلي، حتى سمعت لساني يقول “معقول يا صلاح؟” ، مباشرة عُدت إلى كرسي المكتب، وأشهرت قلمي على السطور، ورميت غمده بعيداً مشيرٌ بتلك الحركة أن لا عودة من هذه الحرب إلا بعد التأكد من انتصاري الحتمي…
إنها حربي مع الورق الفارغ الذي أُصِرُّ عليه أن يعترف لي…، هل هذه الصدفة هي نهاية وحدتي؟ هل سينتقل قلبي من وضع الفراغ إلى وضع الفيض الحنيني؟ ولكن كيف؟ كيف لقلبٍ أن يفيضَ حنيناً دون رؤيتها واعتقاله لكلمتين ونظرة منها على أقل تقدير؛ ليختبر صدق الشعور؟ ولكن قلبي يشعر بأنهُ رآها فعلاً من قبل؛ فقلبي يحلم بشبيهتها دوماً حتى تعرَّف على كينونتها مباشرةً بعد رؤية عيناي لصورتها الزهية، فقلبي ما انفك لحظةً عن مناداتها لتقترب منه، إنه يعرفها جيداً كما لو أنها ولدت فيه منذ الأزل…
على قلبي الآن أن يتنعم بالتدفق الكبير للدم الدافئ، ليس لشيء، سوى أن مصدر هذا الدم هو شخصها اللطيف…، سأطلب من القدر وغموضه أن يكتفي بهذه الصدفة، وأن يعاونني على أمرٍ واحد، هو أن يجعل عيوني تراها كما رآها قلبي من قبل…

Leave your vote

-1 points
Upvote Downvote

Comments

0 comments

السابق
نص نثري بقلم إسلام رائد عموري
التالي

اترك تعليقاً