مقالات ونصوص متنوعة

حب سقيم (الجزء الثاني) بقلم: آرام نمر الحراسيس”قصة قصيرة”

قاسمتني آلامها، و شاركتني قصة مرض تتوارثه عائلتها، استحوذ عليّ الألم آنذاك، إلا أنني من حدة ثقتها و اعتدادها بنفسها و حسن ظنها بالله لم يخالجني شعور الشفقة تجاهها قط، فأصرَّ قلبي عليها، و ازدادت نيران حبي لها لهيباً و تأججاً.
هممت برفقة والدي لخطبتها بعد طول جدال و مناكفات دارت بيني و بين العائلة حولها، حتى انصاع الجميع لرغبتي على الرغم من أنها خالفت مقاييس زوجتي المستقبلية -على حد وصفهم- بسبب مرضها الوراثي، فخرجنا في طريقنا نحو منزلهم و بداخلي تحطمت أشياء و أشياء و لم يبدِ والدي أي نوع من الإعجاب، كان صامتاً طوال الوقت، صمته المبهم كان يخيفني بشدة، هل سيتراجع عندما نصل؟ أم سيعترض أثناء الخطبة؟ وصلنا و كل تلك الأشياء كانت مخاوفي في الدرجة الأولى، دخلنا و قلبي اطمأن نوعاً ما، انسجم والدي في الحديث مع أبيها، و أخذا يتبادلان أطراف الحديث، يتحاوران عن زمنهم الجميل و كيف كانت أيام حنّت أفئدتهم إليها، حتى وصلا للحديث المنشود، و استرسل والدي في حديثه لخطبتها لي، و فجأة اجتاح الصمت مجلسنا، فيكسره والدها بتردد قائلاً:- لا أسرار في أمور الزواج، و لا نخفيكم بأن العائلة تتوارث مرض عضال لا علاج له، نظر والدي في عيني نظرة المتساءل أن هل لا زلتَ عند قرارك؟ و عيناه تتوسلان إليَّ بعجز أن أعدل عن قراري، إلا أن قلبي المتحكم أبى إلا أن يجتمع بغاليته، و غشاه ما يعميه عن كل إناث الدنيا.
تيسرت أمور خطبتنا و أقمنا الحفلة على اتفاق مسبق بأن ننسى كل ما قد يعكر صفوة سعادتنا متوكلين على الله، كنت قد قطعت على نفسي عهداً أن أسعدها بشتى الطرق، فكنا نخرج سوياً نرفه عن أنفسنا ما ضيقته علينا المذاكرة، نوثق ذكريات جميلة بيننا قدر الإمكان؛ على أمل أن نتشاركها مع أبنائنا في المستقبل.
و باتفاق من الطرفين تحدد موعد زفافنا، خرجنا معاً للتجهيزات و شراء بذلة الزفاف، كان قلبها يوشك على الخروج من حجرته لشدة فرحها، كنت أسمع ترانيم نبضه على بعد أميال من فرط سعادتها، فراشة تتنقل بخفة بين الفساتين، و أنا أراقبها بسرور غامر، فتحت هاتفي لأنظر للساعة و إذ بفستان يقع على الأرض، أكملت التقليب في هاتفي دونما اكتراث، ثم سمعت صوت ارتطام حاد بالأرض، رفعت نظري لأراها طريحة مغشياً عليها، هرعت نحوها بهلع شديد، حاولت إيقاظها بكل الأساليب، و لكنه لم يكن إغماءً عادياً، وصلت المستشفى و أخبرت الطبيب عما حصل، فأدخلوها غرفة العناية المشددة، و أدركت في وسط فوضى ارتباكي أنني لم أخبر أحداً من أهلها، فزع الجميع نحوي مغدقين عليّ بالأسئلة و الاستفسارات، و لم أكن أملك ما يهدئ من روعهم، فيخرج الطبيب مخبراً الجميع بأن حالتها غير مستقرة و أنها دخلت غيبوبة لا يعرف ما إن كانت ستنجو منها أم ستظل سجينتها طوال العمر.
في منتصف شريط الذكريات ذاك يقاطعني صوت جهاز قياس ضربات القلب بصوته الحاد غير المتقطع، إيذاناً ببدء حداد قلبي و اكتسائه الأسود الحالك، و أمام مشهد لم يسبق لي و أن عشته وقعت سعادتنا في هاوية الفراق، طبيب عاجز أمام الأقدار بلا حيلة، فتاة لم تتم عامها الخامس و العشرين بعد مستلقية على كفنها الأبيض، و غريق أحزان يضرب يديه بزجاج النافذة بعنف محاولاً الوصول إلى محبوبته، و جهاز لا تردد فيه و لا نبضات، يصدر صوتاً ثقب قلبي و أبرحه ضرباً بدويِّه المزعج، فلم يكن مني إلا أن أقع من هول مشهد مأساوي فظيع، ليخلد الزمان قصة حب سقيم مثخنة بالآلام، مثقلة بالمآسي، لم يبقَ منها سوا بضع صور و ذكريات، و كلمات حب تصدح في كل مكان كان فيه لنا لقاء، و فستان أبيض بطرحة لؤلؤية أقام حفل تأبين بعدما استبدلته الأقدار بكفن أبيض اللون أسود المنظر، و تابوت خشيت أن يحبس أنفاسها فيخنقها، و شاب متيّم أصابه الجنون، ينتهي به المطاف بين جدران مستشفى أمراض عقلية، يهذي باسمها في النهار، يهلوس به في الليل، و انتظار مجيئها للزيارة استهلك منه عمراً بأكمله، فظل أطفالنا ينتظرون بلا سأم أن يخبرهم أحدنا عن ذكريات الخطوبة آنذاك، غير مدركين أن روح والدتهم عانقت السماوات تاركة والدهم خلفها سجين أربع جدران مع حبوب المهدئات و لا أنهم لم يروا نور الحياة بالأساس.

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
كفانا بقلم: رنيم سعيد ابو فخر
التالي
لا بأس عليك بقلم: بلقيس_محمد “نص نثري”

اترك تعليقاً