مقالات ونصوص متنوعة

حدثنا عبدالله العامري ،بقلم:بيان محمد نزار وهبة ‘مقال

 حدثنا عبد الله العامريّ قائلاً : كنت متّجهاً إلى المشفى الجامعيّ.. مدندناً بأبيات للأصمعيّ.. المشفى الذي يتربّع وسط المدينة… والذي يبعد عن بيتنا زقاقاً وخمسينا… وبطبيعة الحال، كنت أقصد المبنى لغرض التدريب… الذي يجريه قبل أن يمارس المهنة كل طبيب… حين ولجت الزقاق الأخيرَ… شاهدت في آخره طفلاً صغيرا… كان يتلوّى بأنينٍ مكتوم… بعد أن وصل به الألم الحدّ المعلوم… وبدا لي أنه يعاني من وجعٍ مشؤوم… أصاب بطنه الذي راح يفركه ويدعكه علَّ ذلك يريح كاهله المثقل بالهموم.. اقتربت منه في عجل.. وسألته عن مكمن الخلل… فأجابني قائلاً: ما بي من علل! قطبت حاجبيَّ في ريبة.. وسألته في لهجةٍ مشوبةٍ بالطيبة : ممّا تشكو ياصغيري… لاتخف فأنا طبيبٌ ماهر.. وبدأت أتحذلق عن معرفتي بكلامٍ ساحر… هزَّ رأسه نافياً وقال : ما بي من علَّة! وبدا أنه سئم من أسئلتي المتكررة المملة… أقعى على ناصية الطريق .. وعاد يفرك أمعاءه في حيرة وضيق… جاورته مجلسه أنظر إلى حاله يتألم كالمكلوم.. وتراءى لي خاطرٌ أنه قد يكون مسموم… سألته في صوتٍ خفيض : أعلم ستقول لستُ بمريض… لكن هل لي بسؤال؟ حقَّاً تسوؤني رؤيتك على هذه الحال! ماذا أكلتَ آخر مرة ومتى ؟ هيَّا أجبني يا فتى ! شخص إليَّ ببصره مشدوهاً… وزوى مابين حاجبيه علَّه يدرك حقيقة الأمر الذي أحسه مشبوهاً.. ثمَّ صاح بلهجة مشبعة بحزنٍ وثقلٍ وهمٍّ… وصرخ بصوتٍ متهدِّجٍ يميل إلى البكاء أو السقم: آهٍ يا عمّ… لم أتناول شيئاً منذ عصر البارحة… وجلستي هذه لجوعي شارحة… داخلي يلتهمني من شدة الجوع… وبيتي بعيد عن هذه الربوع… فأنا أسكن في المحافظة الثانية… أمِّي تركتني هنا قائلةً سأغيب لثانية… وقد مرَّ وقتٌ طويلٌ ولم ترجع… وعصارة معدتي ما فتئت تقرقع..! وقد أتعبني هذا الحال المقيت.. فجلست أرضاً أدعو أن نرجع إلى بيتنا قبل وقت المبيت… ثمَّ سكتَ في قلَّة حيلة… وقد أفرغ جعبته من الكلمات التي كانت على نفسه ثقيلة… تحرَّكتُ بفعل ما دسَّه فيَّ من عاطفة… وما هاج في دخلي من مشاعر بقلبي عاصفة.. حتى قطعتُ كل الأزقَّة… وابتعتُ له طعاماً وقدَّمته له في رقَّة… شكرني بكلماتٍ متداخلةٍ وبابتسامة واسعة…وراح يقضم من الفطائر الساخنةِ اللاذعة… وضعتُ بقربه المشتريات التي تحويها السلة… وتأملته مأخوذاً وقد زاد بهاء ملامحه وتفتَّحتْ في وُجنتيه فٌلَّة.. وبعد لحظاتٍ قليلة… أقبلت سيدةٌ حسناءٌ طويلة… تأملتْ لوهلةٍ الطفل الجالس بقربي… ثمَّ صاحت بأعلى صوتها: آهٍ ياربي… أنت حولي وحسبي… بعد أن أيقنتُ أنها والدته.. أخبرتها أنني أنا من ساعدته… قلت في شيء من الحياء، ولم أقصد بذلك منًّةً أو رياء… – لقد كان جائعاً فقدَّمت له الطعام… انظري هاهو قد أضحى كالحسام… رسمتُ ابتسامةً أداري بها خجلي… ثمَّ تلفَّتُ من حولي فألفيتُ السيدة تؤدِّب ابنها لأنه أكل… وهذا ما زاد فيَّ الخجل… أثنيتُ على نفسي في داخلي مراراً… ودعوتُ أن يجعل الله أمثالي أكثاراً… لكنني اصطدمت بملامحها المتجهِّمة… صاحت فيَّ بصوتٍ يقرع الجمجمة… – تبَّتْ يداك وخسئْت… ولا شكراً على ما عملت…لقد أحضرته بعد أن سافرتُ به أربع ساعات… وقطعْتُ عدداً كبيراً من الشوارع والطرقات… لقد طلب الأطِّباء منه للدم تحليلاً… وينبغي ألا يسلك قبل إجرائه إلى الطعام سبيلاً…. التحليل يجرى عندما تكون معدته فارغة… لا أحسنْتَ يا ذا القامة الفارعة!.. استدرت ببطء معتذراً وحثثتُ المسيرَ… أباعد بين خطواتي مقداراً كبيرا … والسيَّدة تنهال عليَّ بالصراخ والسباب والشتْم… وتتوعَّد صغيرها وتجذبه من أذنه في حزم… ومنذ ذلك اليوم، لم أساعد أحداً قريباً من المشفى، مهما أشاع عنِّي من الصفات ومهما نعتني باللؤم…

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
وجه آخر ، بقلم : هناء عمر النصيرات
التالي
دراسة ، بقلم : سالمة هويدي اعنيزة

اترك تعليقاً