قضايا مجتمعية

موضوع عن التكنولوجيا والمجتمع

حينما اتجهت أغلب دول العالم الثالث إلى تطوير اقتصادياتها توجهت بفعل العلاقة الاغترابية بين المجتمع والتكنولوجيا الحديثة، إلى الصناعات الأكثر استهلاكاً للطاقة مثل البتروكيماويات، حيث استعمال الطاقة مزدوج، كمادة تحول إلى منتوجات مصنعة، وكطاقة لتشغيل المنشآت الصناعية.. كذلك الحاجة المتزايدة إلى الطاقة الكهربائية، بفعل التوسع الهائل في مدن العالم الثالث والدخول في نمط الاستهلاك الحديث، باستعمال أدوات منزلية تحتاج إلى كميات كبيرة من الطاقة.

كما ان اقتصاديات تصنيع المواد البتروكيماوية معقدة، وتضمن تكنولوجيا متقدمة وحجوماً انتاجية كبيرة، وارتفاع أسعار المواد الداخلة في الانتاج.. انها باختصار صناعة كثيفة الاستخدام للطاقة ورأس المال ووجودها لا يعزز القدرة على متابعة النمو الاقتصادي على المدى الطويل.. لأن هذه القدرة تعتمد اعتماداً كبيراً على التغيير البنيوي في الاقتصاد وملحقاته. وهذه صورة من صور الاستهلاك الفوضوي وغير المنظم للطاقة، وبفعل النظر إلى التطور والتنمية الاقتصادية والتكنولوجية وكأنها مجرد توسع اقتصادي، يتحقق عن طريق استثمار ونسبة عالية من الأموال، وهذا بطبيعة الحال من الأخطاء الشائعة، التي وقعت فيها معظم بلدان العالم الثالث تحت تأثير التخصيص الاقتصادي في الغرب وعدم فهم ماهية الاقتصاد السياسي في المجتمع. والتاريخ الاقتصادي الأوروبي، يعلمنا في هذا الشأن، أن التقدم البطيء في الانتاجية الفردية في الأرياف، وفي الأوساط الحرفية، هو الذي كان الدعامة الكبرى للثورة الصناعية.

الاستعارة النظرية والهيكلية من الخارج: ان أبرز الحقائق التاريخية، أن المنجزات التكنولوجية الأساسية كانت بفضل منجزات الحرفيين المهرة، وبالتالي فإن التقدم الاقتصادي والصناعي، وليد البيئة الثقافية والاجتماعية.. وتأسيساً على هذا يمكن القول ان الإخفاق الحاصل في العالم الثالث في اللحاق بالتكنولوجيا الحديثة، يمكنه أن يعزى إلى الاغفال التام أو الجزئي إلى العوامل الاجتماعية والثقافية، التي تحكم التكوين لدى الشعوب في ميدان العلم والتكنولوجيا.. وبسبب هذا الاغفال تتم استعارة النظريات الغربية في التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي ولذلك نجد في غالبية بلدان العالم الثالث ان المشاريع والأعمال التخطيطية، أتت في الحقيقة نتيجة النظرة الاغترابية تجاه المستوى الاقتصادي في البلدان المتطورة صناعياً.
ولذلك أتت بنتائج عكسية، أي بتعمق التبعية التكنولوجية والغذائية تجاه الغرب. ونظريات التنمية المستخدمة، تناسب مصالح الدول المتقدمة صناعياً، من حيث ان اعتمادها من قبل حكومات العالم الثالث، يؤدي إلى تعامل كثيف غير متكافئ مع الدول الصناعية بالانصراف إلى المشاريع العملاقة الكثيفة الرأسمال، والتي تتطلب الاستقراض واستيراد الآلات المكلفة المعقدة، بما لا يراعي ظروف البيئة والمستوى التقني المحلي وينتج عن ذلك تبذير وضياع اقتصادي واجتماعي لا حد له.

إقرأ أيضا:أضرار الإسراف والتبذير

وينبغي القول في هذا المجال، أنه وبفعل التعاطي المغلوط مع التكنولوجيا الحديثة، ساهمت مجتمعات العالم الثالث بشكل أو بآخر في تعميم المشروع الثقافي الغربي عبر سلاح التقنية الحديثة، بحيث أنه “ولأول مرة في تاريخ الإنسانية يبدو أن مشروعاً ثقافياً واحداً يتحكم في العالم كله، فارضاً عليه هويته، موزعاً على شعوبه الأدوار المتكاملة، التي تحفظ استمرار هذه الهوية الواحدة ودورتها التبادلية التي تستوعب جميع فعاليات المجتمعات والشعوب، وفق استراتيجية كليانية، وتستغلها وفق هذه الأدوار في تنمية سلطان جبار، لا وجه له يعرف به ولا رأس واضح يخطط له ويقوده. ولكنه المشروع الذي تتآزر مختلف قواه الذاتية لتنتج قوانينها الخاصة وخططها التسلطية أنها مشروع التقنية الشمولية التي تلتهم المسافات المكانية والتاريخية والخصوصيات القومية في حركة تجييش جبارة، تحيل كل عناصرها إلى أدوات لبعضها، ووسائط انتقائية تصب امكانياتها وقواها في المجرى الواحد، وتضاعف من طغيانه وتوسع من شموليته.. ولهذا نجد ومنذ فترة زمنية طويلة، أن السياسة الاقتصادية المستخدمة من قبل الدول الكبرى تجاه قضايا العالم، كانت موجهة دائماً نحو إضعاف فعالية علاقات الانتاج داخل الشعوب وفيما بينها لصالح سيطرة أدوات الانتاج المصنعة غربياً.. وبالتالي تتم العرقلة المستمرة لكل محاولات البناء الاقتصادي السليم.

وإن الفضاء الاجتماعي الذي يتشكل من جراء العلاقة غير الواعية مع التكنولوجيا هو غطاء يعكس متغيرات عدة وتتجمع تناقضات شتى، هو فضاء تزاحمه أنماط من الحياة والاستهلاك والقيم، ليست بالتقليدية أو الأصيلة.

إقرأ أيضا:أهمية القانون الدولي العام

ويطلق (أدونيس) على هذه الحالة بالتعايش المغاير.. إذ تتلاقى عناصر مختلفة وغير متجانسة داخل نفس الفضاء الاجتماعي، وهذا التعايش بالطبع ليس تعايشاً طبيعياً، لأنه يكشف توتراً وازدواجية داخل النسق الاجتماعي.. ويشير الكاتب الكويتي الدكتور عبدالله الربعي إلى حالة الاغتراب بين المواطن العربي والتقانة الحديثة بقوله: في وضع كهذا، حدث خلط كبير بين أن تصنع حضارة وبين أن تشتري حضارة، وهو الفرق بين التنمية والنمو، بين ان تكبر في الحضارة وان تكبر على هامش الحضارة.

الإنسان عندنا منبهر بالحضارة الوافدة، المستوردة، المشتراة، يفتح فمه مندهشاً منها، ولكنه يعيش دائماً في حالة اغتراب معها. انها حضارة الآخر منقولة لنا بالشحن البحري أو الجوي وبواسطة القدرة الشرائية، ولذلك فهناك حالة اغتراب ثقافي ومعاناة بيننا وبين أجهزتنا الاستهلاكية التي ابتكرتها آخر عبقرية العصر. لذلك نقف حائرين عندما تصاب هذه الأجهزة بالخلل مثلاً، لأن لهذه الآلات والأجهزة أسرارها التي لا نعرفها، وهي أسرار خلقت لدينا خوفاً وحيرة في التعامل معها. إن هذه العلاقة الاغترابية هي تعبير عن أزمة ثقافية يحكمها قانون التخلف المتعلق بقوانين تطور المجتمع من جهة وتحكمها علاقة التبعية كعامل مرتبط بالتخلف من جهة أخرى.

إنه اغتراب من نوع خاص، انه ليس اغتراباً عن الطبيعة بالمعنى الهيغلي، وليس اغتراباً عن الدين بالمعنى الفيورباخي، وليس اغتراباً متعلقاً بالاستغلال الطبقي بالمعنى الماركسي.. لكنه اغتراب يأخذ بعداً عنيفاً، بل هو يقترب من المأساة.. انه اغتراب عن أدوات الثقافة ونظم ماضينا القريب جداً.. وهو أيضاً اغتراب عن حاضر معاش هو حاضر الآخرين، انها حالة طلاق بائن مع أدوات الثقافة ونظم حياتنا التقليدية الماضية، وهي حالة تزاوج غير متكافئ مع حاضر الآخرين، لذلك فإن هذا الاغتراب الثقافي، يأخذ شكل اغتراب مع التاريخ (تاريخنا نحن)، واغتراب مع الجغرافيا (حاضر الآخرين) وهي حالة لها تأثيراتها النفسية الهائلة في الثقافة السائدة وقوانين العلاقة بين التكنولوجيا الحديثة والمجتمع.

إقرأ أيضا:أهمية مشاركة الأسرة مع المدرسة

لذلك فإننا نرفض التماهي في المعدات التكنولوجية، دون التثاقف والتفاعل المعرفي مع خلفيتها العلمية ودلالاتها المختلفة. كما أننا نرفض رفض التكنولوجيا ومقاومتها، تحت مبرر ماضوي لا يمت إلى نظامنا العقدي إلا بصلة الاسم والعنوان فحسب.

اننا ندعو إلى التفاعل مع التكنولوجيا، من منطلق المعرفة بأسرارها وخلفياتها العلمية والنظرية.. لأن التماهي المجرد مع التكنولوجيا والتقنية الحديثة يصنع صخب الاستهلاك الترفي، ووهم الانتاجية دون الأسس الصلبة والبنية المطلوبة لعمليات التمدين والتنمية الشاملة.

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
عبارات شكرا طالبتي
التالي
موضوع عن المجتمع والأسرة

اترك تعليقاً