مقالات ونصوص متنوعة

رؤى، بقلم : إسلام محمد زيدان، “قصة قصيرة”

“رؤى”
(١)

رأيتُهُ لأولَ مرةٍ، كنتُ صبياً حينها، وكان هو يدقُ أبوابَ الأربعينيات بجلبابٍ أزرقٍ باهتٍ وشعرٍ فاحمَ السوادِ تخرجُ عليه شمسُ الصباحُ فتُضيءُ الأتربة التي تغطيه وتُحيلُه رَمادياً، يَحتلُ شَاربه الذي يمنحه القوة كاملَ مَساحة وجهه، تَعلوه سمرةٌ جنوبيةٌ باديةٌ بمحيط فرشته التي افترشها أمام المدرسة الإعدادية، يعتمرُ شالاً صوفياً ويَرتدي نَعلاً بلاستيكياً، يُشيرُ بأصبعٍ غليظٍ إلى بائع الفُشار أن يتحركَ، تبدو الغلظة عليه والتحدي، روحٌ عنيدة تأبى الإستسلام لأولئك المراهقين الذين يبتاعون منه القَصَصَ والروايات وأساور المعصم النحاسية وملصقات مايكل جاكسون، إعتاد منهم المراوغة والتندر والسخرية، فكان صلباً لا يثنيه الأطفال عن سعره، ولا يجعلهم يلمسون بضاعته كي لا تتلف من أياديهم الممتلئة بآثار الفلافل وأكياس البطاطس المقلية .. ثابتُ النظراتِ والنبراتِ لا تخطئه العين، يُميزُ ما بين القصص المُهترئةِ والجيدةِ والممتازةِ الحال بفواصلٍ من الميداليات اللامعة محفورٌ عليها صور مطربين شباب، يحملُ في كيسَهُ القُمَاشي قِطعةً فضيةً كبيرةً محفورٌ بها نقشٌ لمارادونا، لا يُخرجها إلا نادراً، معدودون هم من تمكنوا من رؤيتها، يقول أنه قد وجدها بسلة مهملات تخص فيلا الخواجة الذي يقطن بالشارع المقابل للمدرسة.

(٢)

رأيته وقد إرتَدْتُ الجامعة وأصبحتُ أنظرَ إلى الأمورِ من منظورٍ جديدٍ، وإرتَدَتْ السماءُ أزياءَ الشتاءِ وحَملت سحَاباتِها اكتِئابَاتٍ تنعكسُ فوق المَعاطفِ والَتنوُرات الصُوفيةِ المغزولةَ بأيدي فتيات الريف البريطاني، وتَجَرَدَت الأشجارُ من وريقاتها الخضراء اللامعة زاهيةُ الملامحِ ذكيةُ الرائحةِ، إرتدَى خُفاً جلدياً وتجردت جِلبابُهُ من لَونها فأضحى الأزرقُ رمادياً وتَزَينَ بثقوبٍ عدةْ وفَاحتْ منهُ رَوائحَ الهمِ والكدِ والعناءِ، استحالَ شاربه العتيد إلى لحيةٍ كثةٍ غيرُ مرتبة تخرجُ من شعيرات رَماديةُ اللون خشنةٌ طويلَة، تضربُ جذوُرَها في تُربةِ جلدَ وَجهه فَتَشُّدُهُ ليَبدوُ كسطحِ طبلةِ تنقرُ عليها جدتي قديماً ببلدتنا في أفراحِ العائلة، وجهٌ كالحٌ خالٍ من التعبيرات وأنفه أَشَمْ يرفعه بين الفينة والفينة لا يدري الذي يراه أَمرضٌ أَلَمَ به، أم أنها بقايا قوةٍ وعنادٍ تحلى بهن يوماً ما ؟؟!

إقرأ أيضا:تطويل الأظافر في يوم واحد

يفترشُ الميدانَ الكبير قُبالةَ بوابة الجامعة ويرصُ بضاعَتَهُ المُتنَوعَةُ الأشكالِ والأحجامِ والأصنافِ بلا ترتيبٍ، فتختلطُ الملاعقُ بِعُلَبِ الثَقابْ ومفارشُ المائدةِ المطرزةُ بالنقوشِ النوبيةِ وبعض الحُلي المُقلَدة والتي تَخلبُ لُبَ الفتيات وموظفات الهيئات الحكُومية والتي تقبعُ بالميدانِ الفَسيح، لا يُجادلُ ولا يُناقشُ تَسألُهُ إحداهُنَ سعراً فيُجِيَبهَا فإن جادلته فلا يُخالفُها ويَقبلُ بالسعرِ الذي تقترحه.. جَلَّ ما يَبتَغِيه أن يُغطي تكاليف بِضاعته وقُوتَه اليومي، طَالَ شَعرهُ وغَطَىَ المَشيبُ رَأسَه ووَلَتَ لمعةُ عيناه.. أتراهُ يحتفظُ بتلك القطعةَ الفضيةَ ذاتُ النقشِ المحفورِ لرأس مارادونا ؟!

(٣)

تخَّرجتُ في الجامعة وتَسَلمتُ وظيفةً مكتبيةَ بإحدى مستشفيات العاصمة، وحين داعبتني صورةُ رفيقِ سور المدرسة ظننت أن رفيقي قد إنتهى أمره وهلك بين الزحامِ والأيامِ والعَوَزِ وتَغيرُ الأحوالِ وسُرعةُ المنوالِ، وحينَ إحتفلتَ مع الرفاقِ بعيدِ الهَلَعِ الخَامسِ لي في مَكتبِ شُئون العاملين، يومها رأيتَهَ وقد إنحنى ظهرهُ وتَقَوَسَ ونَقُصَ وزنه كثيراً، أصبح جلبابُهُ أسمالاً بالية، وقدمَاهُ العاريتانِ تُغطيهما طبقاتٌ كثيفةٌ من أوساخِ الطريقِ وتَحولَ شعرهُ الطويل الرث الهيئة الى تكتلاتٍ غيرُ منتظمةِ الشكل، واستحالتْ نَظَراته الثَابتة الى تحركاتٍ عنيفةٍ، يمنةٌ ويسرةٌ يبحثُ عن شئ ما لا يدري كنهه، لا يرغب المارة في ذلك الشارع المفضي إلى كورنيش النيل من الوقوف أمام بضاعته القليلة من كُتَيبات أذكار الصباح والمساء وبِضِعِ كُرُوتَ كرتونية نُقشَ عليها لفظ الجلالة وفضل التسبيح، زَيَنَ أركان صندوق الجريد الذي يضع فيه بضاعته بمسابح ملونة وبضع قنينات مسك وعود وعنبر ورياحين الورد وازهار الياسمين.. يعلوه جدار مغطى بملصقات دعاية انتخابية لشخص يرتدي عوينات ذهبية وبعينيه عود بخور يشع في المكان ريحا طيبة، أبيتُ ألا أُفارقَ المكان قبل أن أبتاع منه قنينة مسك وياسمين ونفحته ورقة مالية أخذها بسرعة ليضعها في كيس قماشي يحمل بين خيوطه ذكريات عديدة.. استرقت النظر بداخله أفتش عن ضالتي المنقوشة عليها مارادونا فلم أستطع رؤيتها من سرعته التي خبأ بها كيسه بين طيات ملابسه.

إقرأ أيضا:أسهل طرق عمل التبولة

(4)

مَرتْ شتاءاتٌ عديدةٌ ظننت أني مفارق صاحبي خلالهن، فآخرُ لقاءاتنا لم يكن مثمراً، كم مَر؟ أخمسةُ عشرة أم عشرون عاماً؟ لا أدري ولكنني تعرفتُ إليه كهلاً معقوفُ الأنفِ أحدبُ الظهر نَحيلُ الجسدَ كريهُ الرائحةِ أسمالهُ باليةٌ متعفنةٌ، ساقاه نحيلتان كعودي بامبو لا يحملانه ولا يمكنانه من السير، يتكأُ على عصاه الغليظة يهشُ بها تحرشُ الأطفال الذين يقذفونه بقطعِ الحجارة الصغيرة ويتضاحكون، لم يكن بمقربةٍ منا ولكن رفيقي الصغير الذي كنت أقله إلى المدرسة ارتعدَ رُعباً من مَرآه بإشارةِ المرور، يسألُ الناسَ إلحافاً وطعاماً يسدُ به رَمَقِه وجُوعِه وعجزِه وبُؤسه وينقذُ بإشاراتهِ المبهمةِ تقرحُ قدميه وتورمُ مفاصل ركبتيه، يتبولُ بأحدِ أركان الشارع ويسيرُ بتؤدةٍ مبتعداً، يحكُ رأسه بعصاه ويجلس على الأرضِ متخذاً وضع القرفصاء كتمثال بوذا ينظرُ إلى الشارعِ بعينينِ خاويتينِ من الحرارةِ ومن التفاعلِ ومن الحياةِ. أفكرُ برهةً أيمكنني الآن أن اشتري تلك القطعة الفضية التي وجدها يوماً بصندوقِ قمامة الخواجة الإيطالي؟ أم أنه تخلصَ منها في أية محطة من محطات الحياة!؟ أم تراها سُرقَت أم فُقِدَتْ خلال نوبات هذيانه؟ سارَ على غيِر هدىً يقيِ نفسه شرُ الأطفالِ ويختبأُ من نظرات المارة، يجوبُ الطُرُقَات ويَتَكومَ كقطعةِ خردة تحت إحدى الأشجار لينام، ألوثةٌ حَلَّتْ به أم هو الذُهانُ أو فقرٌ مدقعٌ كبقية الخلائقِ في هذا الزمان؟! لا أضمن أن أرى صاحبي هذا مرة أخرى، فبكلِ مرةٍ أراه يتقهقرُ حالُهُ ويبقى سؤالي عظيماً، تُرىَ كيفَ حالُ نقشِ مارادونا وإلى أين آل بِه المَآل؟

إقرأ أيضا:كيفية تلميع الخشب

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
طريقة عمل الترمس بسهولة
التالي
المقبلات سريعة التحضير

اترك تعليقاً