القرآن الكريم

تفسير سورة إبراهيم كاملة

(تفسير سورة إبراهيم كاملة)

  1. الربع الأول من سورة إبراهيم

الآية 1، والآية 2، والآية 3: ﴿الر: سَبَقَ الكلام عن الحروف المُقطَّعة في أول سورة البقرة، (واعلم أنّ هذه الحروف تُقرأ هكذا: ألِف لام را).

♦ إنَّ هذا القرآن هو ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ أيها الرسول ﴿لِتُخْرِجَ به ﴿النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أي من ظُلُمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ وتوفيقه لهم ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ: يعني إلى الإسلام، الذي هو طريقُ اللهِ العزيز (والعزيز هو الغالب الذي لا يَمنعه شيء مِن فِعل ما يريد(، ﴿الْحَمِيدِ الذي يَستحق الحمد والثناء في كل حال، لِكَثرة نِعَمِه على مخلوقاته.

 ♦فالإسلام هو طريقُ ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ – خلقًا وتصرُّفًا وإحاطة – ولذلك فهو الذي يجب أن تكون العبادة له وحده، ﴿وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ يوم القيامة، )واعلم أنّ كلمة: “وَيْل” هي كلمة تهديد ووعيد، وتأتي أيضاً بمعنى “هلاك”).

♦ وهؤلاء الكافرون هم ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ: أي يَختارون الحياة الدنيا الفانية، ويَتركون الآخرة الباقية، ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يَمنعون الناس عن اتِّباع دين الله ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أي: ويريدون هذه السبيل (وهي الإسلام) أن تكونَ معوجّة لِتُوافِق أهواءهم، ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ أي بعيد عن الحق وعن أسباب الهداية.

الآية 4: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ مِن قبلك أيها النبي ﴿إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ يعني إلا بِلُغَة قومه ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ: أي لِيُوَضِّح لهم شريعة اللهِ تعالى، ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ بعدله وحِكمته ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بفضله ورحمته ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي – مِن عِزَّتِه سبحانه – أنه انفرَدَ بالهداية والإضلال، ﴿الْحَكِيمُ الذي يَضع الأمور في مَواضعها، فلذلك يَهدي مَن طلب الهداية بصِدق وسَعَى في تحصيل أسبابها، ويُضِلُّ مَن رغب في الضلال، وسعى إليه وفَضَّلَهُ على الهدى.

♦ واعلم أنه لا حُجَّة لغير العرب في هذه الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾، لأنّ كُلُّ مَن تُرجِمَ له الإسلام بِلُغَته، وَجَبَ عليه الدخول فيه والعمل بشرائعه، لِيَسعد في الدنيا والآخرة.

الآية 5: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى إلى بني إسرائيل ﴿بِآَيَاتِنَا أي بالمُعجزات الدالة على صِدقه، وأمَرناه ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أي من الضلال إلى الهدى، ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ العظيمة، التي نَجَّى اللهُ فيها عباده المؤمنين، وأهلَكَ فيها العُصاة والطاغين (كيَوْم عاشوراء الذي نَجَّاكم اللهُ فيه من الغرق، وأغرق فرعون وجنوده) ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ﴾: يعني إنّ في هذا التذكير لَدلالاتٍ يُستدَلّ بها على فضل اللهِ تعالى على عباده المحسنين، وانتقامه من أعدائه الجاحدين.

 ♦وقولُهُ تعالى: ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ أي كثير الصبر على طاعة الله، وكثير الصبر عن مَعاصِيه، وكثير الصبر على أقداره، ﴿شَكُورٍ أي كثير الشُكر لنِعَمِ الله عليه، إذ كلما تتجدد له نعمةٌ من الله تعالى، يُقابلها بالشُكر (قائلاً بلسانه: الحمد لله)، ثم يستخدمها في طاعته، (وقد خَصَّ اللهُ الصابرينَ الشاكرينَ بالذِكر؛ لأنهم هم الذين يَعتبرون بآياته ولا يَغْفُلون عنها).

الآية 6، والآية 7: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ أي اذكر – أيها الرسول – حين قال موسى لبني إسرائيل: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ﴾: أي اذكروا حين أنقذكم اللهُ مِن بَطش فرعون وأتْباعه، فقد كانوا ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾: أي يُذيقونكم أشدَّ العذاب، ﴿وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ الذكور (حتى لا يأتي منهم مَن يَستولي على مُلْك فرعون)، ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ: أي يَتركون بناتكم أحياءً ذليلات للخِدمة والإهانة، ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ يعني: وفي ذلك اختبارٌ لكم من ربكم، وفي إنجائكم مِنْهُ نعمة عظيمة، تستوجبُ شُكرَ اللهِ تعالى في كل عصوركم وأجيالكم.

 ♦وقال لهم موسى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي اذكروا حين أَعْلَمَكم ربكم أنكم ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ يعني لئن شَكرتموني على نِعَمي لأَزيدنَّكم مِن فضلي، ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ يعني: ولئن جحدتم نِعَمي عليكم لأَعذبنَّكم عذابًا شديدًا.

الآية 8: ﴿وَقَالَ مُوسَى لهم: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ فلن تَضُرُّوا اللهَ شيئًا ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن عبادة خَلْقه، ﴿حَمِيدٌ: أي مُستحِق للحمد والثناء في كل حال.

الآية 9: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ – يا أُمَّة محمد – ﴿نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: أي خبر الأمم التي كانت قبلكم، كـ ﴿قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴿لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ: أي لا يُحصِي عددهم إلا اللهُ تعالى، وقد ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أي بالأدلة الواضحة على صِدقهم، ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ أي فوَضَعَ الأقوامُ أيديهم على أفواه رُسُلهم (يَطلبون منهم السكوت) ﴿وَقَالُوا﴾ لِرُسُلهم: ﴿إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ أي مُوقِع في الحيرة والقلق والتردد.

الآية 10: ﴿قَالَتْ لهم ﴿رُسُلُهُمْ: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي خالق السماوات والأرض، ومُنشِئهما من العدم على غير مثالٍ سابق؟، وهو سبحانه ﴿يَدْعُوكُمْ إلى توحيده وطاعته ﴿لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ (وهي كل الذنوب التي بينكم وبين ربكم، أمّا مَظالم الناس: فرُدُّوها إليهم تُغفَر لكم)، ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني آمِنوا حتى لا يُعَجِّل سبحانه بهلاككم – عقوبةً لكم على كُفركم – بل يؤَخّر بقاءكم في الدنيا إلى نهاية آجالكم.

♦ وهنا ينبغي أن نقولُ لمن أصابته وسوسة في إيمانه باللهِ تعالى – حتى يَزداد إيمانه ويَتخلص من هذا الوسواس -: (أخي الحبيب: إنَّ مُؤَسِّسي فِكرة الإلحاد قديماً قد اعترفوا بأنَّ العِلم الحديث قد أثبت أنه لابد مِن وجود خالق لهذا الكون الذي يَسير بهذا النظام المُتَزن، فإنّ الشمس لو ارتفعَتْ عن الأرض (سَنتِيمِتراً واحداً): فإنّ الأرض سوف تتجمد، وإذا اقترَبَتْ من الأرض (سَنتِيمِتراً واحداً): فإنّ الأرض سوف تحترق، وإنه لا يمكن للصُدفة أبداً أن تُنشِئَ هذا النِظام الدَقيق، فلا يُمكن لها أن تأتي بالشمس – كل يوم – في موعدٍ مُحدد لا تتأخر عنه لحظة، وإلاَّ، فلو كان الأمرُ بالصُدفة: فإنّ الشمس كانت ستأتي في هذا الموعد مرة وتتأخر عنه مرات، ولا يمكن للصدفة أيضاً أن تأتي بقطعٍ مُبَعثَرَة من الحديد لِتُكَوِّنَ منها سيارة أو طائرة أو قطار، ولا يُمكن لها أن تُسَيِّرَ السفن في البحار والمُحيطات وحدها بدون قائدٍ يقودها، ولا يُمكن لها أن تأتي بكمية من الطوب المُبَعثَر لِتَبنِي بها مباني سكنية ذات طوابق عديدة، في كل طابق منها: أربعة منازل (مُجَهَّزَة) ومفروشة ومَدهونة بألوان مختلفة).

 ♦وقالوا أيضاً: (إنه بعد تراكُم الأدلة نستطيع أن نقول: (إنَّ هناك قوة خَفِيَّة وراء هذا الكون تُسَيِّرُهُ بهذا النظام المُحكَم الذي لا يَختل ولا يَضطرب لحظة واحدة)، (وإنَّ هذه القوة قد سَخَّرَتْ جميع المخلوقات لِخِدمة الإنسان، بدليل أنَّ هذا (الجَمَل) الضخم يقوده طفلٌ صغير، ولا يؤذيه ولا يَضُرُّه، بل يتحرك ويَنْقادُ بأمره، وإنه لابد لهذه القوة أن تُعلِنَ عن نفسها حتى تُخبِرَنا لماذا خَلَقَتْنا، وما الذي تُحِبُّ أن نفعله، وما الذي يُغضِبُها، وإنه لا يُعقَلُ أبداً أن تكون قد خَلقَتْ كل هذا الخَلق العظيم عَبَثاً ولعباً دونَ أن تأمرهم وتنهاهم).

 ♦وأمّا عدم الاعتراف بهذه القوة بحُجَّة أننا لا نراها: فهذه حُجَّة باطلة، لأنَّ العِلم الحديث قد اكتشف أشياءً عديدة لم يكن يراها الإنسان القديم، (كالكهرباء، ومَوْجَات “الراديو” “والتِلفاز”، والفيروسات، والكائنات الدقيقة التي لا تُرَى بالعين المُجَرَّدة)، ورغم أننا لا نرى هذه الأشياء: إلا إننا نَتَيَقنُ أنها موجودة، إذاً فليس معنى أننا لا نرى الشيئ أنه ليس موجوداً، وإلاَّ، فإنك لا ترى عقلك، ومع ذلك فأنت على يقين بأنَّ لك عقل.

 ♦فلا تَتَّبع هَواك أخي الكريم حتى لا تَضِلّ، ولكنْ تدبَّر القرآن، هذا الكتاب المُعجِز الخالد، الذي إذا رآه أيّ أحدٍ يَحترم عقله، فإنه حَتماً سيقول: (محمدٌ رسول الله، وهذه هي هي مُعجزته :القرآن الكريم).

﴿قَالُوا أي قال الذين كفروا لِرُسُلهم: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا: أي ما نَراكم إلا بشرًا – صفاتكم كصفاتنا – ولا فضلَ لكم علينا يُؤَهِّلكم أن تكونوا رُسُلاً، وإنكم ﴿تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا أي تمنعونا ﴿عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا من الأصنام، ﴿فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ: أي فأتونا بحُجَّة ظاهرة تَشهد على صحة ما تقولون.

الآية 11، والآية 12: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: ﴿إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعني: حقًاً ما نحن إلا بَشَرٌ مِثلكم كما قلتم، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ أي يَتفضل بإنعامه ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فيَختارهم لرسالته، فانظروا إلى ما جئناكم به، فإن كانَ حقاً فاقبلوه، وإن كانَ غير ذلك فرُدُّوه، ﴿وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ أي مُعجِزة – كما طلبتم – ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فالأمر أمْره، وهو على كل شيءٍ قدير، ولِذا فوَّضنا أمورنا إليه، واعتمدنا عليه ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (هذا أمْرٌ من الرُسُل – للمؤمنين مِن قومهم – بالاعتماد على اللهِ وحده في نَصْرهم وهزيمة أعدائهم)، وقد قصَدوا به أنفسهم أيضاً لأنهم أول المؤمنين، ولذلك قالوا: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ﴾؟ يعني: وكيف لا نعتمد على اللهِ تعالى ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا أي: وهو الذي أرشد كل واحد مِنّا إلى طريق النجاة من عذابه (وهو توحيده واتِّباع أحكام دينه)، وعرَّفَنا سبحانه عظمته وقدرته وعزة سلطانه، فأيُّ شيءٍ يَجعلنا لا نتوكل عليه وهو القوي العزيز؟! ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا﴾ بالكلام السيئ وغيره (مُتوكلين على اللهِ تعالى حتى يَنتقم لنا منكم) ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ والمعنى: مَن كان مُتوكِّلاً – أي مُعتمداً – في أمْرِهِ على غير اللهِ تعالى: فليتوكل على الله وحده.

الآية 13، والآية 14: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ: ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا: يعني إلاّ إذا دخلتم في ديننا، فحينئذٍ لن نُخرجكم، ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ: يعني فأوحى اللهُ إلى رُسُله أنه سيُهلك الجاحدين، ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ – أنتم وأتْباعكم – ﴿الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي مِن بعد إهلاكهم، ﴿ذَلِكَ أي ذلك الإهلاك للكفار، وإسكان المؤمنين أرضهم هو أمْرٌ مؤكد ﴿لِمَنْ خَافَ مَقَامِي أي خافَ مِن وقوفه بين يديَّ يوم القيامة ﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾: أي خافَ وعيدي وعذابي.

الآية 15، والآية 16، والآية 17: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا يعني: ولجأ الرُسُل إلى ربهم وسألوهُ النصرَ على أعدائهم والحُكمَ بينهم، فاستجابَ سبحانه لهم وأهلَكَ أعدائهم، ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي هَلَكَ كل مُتكبر لا يَقبل الحق ولا يَنقاد له، ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ: أي سيَلقى مِن بعد هَلاكه: جهنم تنتظره ليُعذَّبَ فيها، فسيَدخلها ويَعطش فيها، ويَطلب الماء ﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ: أي يُسقى فيها مِن الصديد الذي يَخْرج من أجسام أهل النار، فـ ﴿يَتَجَرَّعُهُ: أي يحاول ابتلاع هذا الصديد مرة بعد مرة، ﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ: أي لا يَستطيع أن يَبتلعه; لقَذارته ومَرارته، ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أي يأتيه العذاب الشديد من كل نوع، وفي كل عضو مِن جسده، فحينئذٍ يتمنى الموت ليستريح من هذا العذاب ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ، ﴿وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ يعني: وله مِن بعد هذا العذاب: نوعٌ آخر من العذاب الشديد، الذي لا يُطاق ولا يُحتمَل، (واعلم أنّ لفظ “وراء” يُطلق على ما كان خلفاً وما كان أماماً، لأنّ كل ما وُورِيَ – أي: استُتِر – فهو وراء).

*********************

  1. الربع الثاني من سورة إبراهيم

الآية 18: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ﴾ يعني إنّ مَثَل الأعمال الحَسَنة التي يفعلها الكفار في الدنيا – كَصِلة الأرحام وإكرام الضيف وفك الأسير – كحال الرماد (الذي يَتبقى بعد احتراق الفحم)، وهذا الرماد قد ﴿اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ﴾ أي أصابته ريحٌ شديدة ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ فلم تَترك للرماد أثرًا، فكذلك الكفار ﴿لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ﴾: أي لا يَجدون مِن أعمالهم ما يَنفعهم عند اللهِ تعالى (فقد أذهَبَها الكفر كما أذهَبَت الريحُ الرماد)، ﴿ذَلِكَ﴾ أي السعي والعمل على غير إيمان ﴿هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ عن الطريق المستقيم.

الآية 19، والآية 20: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾: يعني ألم تعلم أيها الرسول ﴿أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾؟ أي لم يَخلقهما سبحانه عَبَثًا وباطلاً، بل خلقهما للاستدلال بهما على وحدانيته وكمال قدرته، وليُعلِمَ عباده أنّ الذي خلق السماوات والأرض قادرٌ على أن يُحيى الموتى، وأنّ ذلك أهْوَنُ عليه مِن خَلق السماوات والأرض، ﴿إِنْ يَشَأْ﴾ سبحانه ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾ أي يُهلككم أيها المشركون ﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ يُطيعونه ولا يُشركون به شيئاً، ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ يعني: وما إهلاككم والإتيان بغيركم بصَعبٍ على اللهِ تعالى أو مُمتنع، بل هو سهلٌ عليه يسير، فإنه سبحانه يقول للشيئ كُن فيكون.

الآية 21: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ يعني: وخرجتْ الخلائق من قبورها يوم القيامة، وظهروا كلهم للهِ تعالى ليَحكم بينهم، ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ أي فحينئذٍ يقول الأتباعُ لرؤسائهم المشركين: ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾: يعني إنَّا كنَّا لكم أتباعًا في الدنيا نأتمر بأمْركم ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني: فهل أنتم – اليوم – دافعونَ عنا من عذاب اللهِ شيئًا كما كنتم تَعِدوننا؟، ﴿قَالُوا﴾ أي فيقول لهم الرؤساء: ﴿لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ يعني: لو كان اللهُ هَدانا في الدنيا إلى الإيمان، لأَرشدناكم إليه، ولكنه لم يُوفقنا، فضَلَلْنا وأضللناكم، و﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا﴾ أي أصابنا السخط واليأس من العذاب ﴿أَمْ صَبَرْنَا﴾ على تَحَمُّله، ففي الحالتين ﴿مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾: يعني ليس لنا مَهرب ولا مَنجى من العذاب، (فليس لهم حينئذٍ إلا الندم والصراخ، نسألُ اللهَ العفو والعافية).

الآية 22: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ – أي بعد أن حَكَمَ اللهُ بين الخلائق، ودخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ – فحينئذٍ يقول الشيطان لأهل النار: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ أي وَعَدَكم وعدًا حقًا بالبعث والجزاء، ﴿وَوَعَدْتُكُمْ﴾ وعدًا باطلاً بأنه لا بَعْثَ ولا جزاء ﴿فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ وعدي، ﴿وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ أي لم يكُن لي عليكم قوة أقهركم بها على اتِّباعي، ولا كانت معي حُجَة، ﴿إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ أي: ولكني دَعَوتُكم إلى الكفر والضلال فاتَّبعتموني، ﴿فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ فالذنبُ ذنبكم، ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ يعني: ما أنا بمُنقذكم مِمّا أنتم فيه من العذاب والكَرب ولا أنتم بمُنقِذيَّ، ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾: يعني إني تبرَّأتُ مِمّا فعلتموه في الدنيا بأنْ جعلتموني شريكًا مع اللهِ في طاعته، ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بسبب إعراضهم عن الحق واتِّباعهم الباطل.

الآية 23: ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي حدائق عجيبة، تجري أنهارُ الماء والعسل واللبن والخمر مِن تحت قصورها العالية، وأشجارها الظليلة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ إذ هو سبحانه الذي أَذِنَ لهم بدخولها والخلود فيها، ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا﴾ أي تحية اللهِ وملائكته لهم – وكذلك تحية بعضهم لبعضٍ في الجنة – هي قولهم: ﴿سَلَامٌ﴾ (أي سَلِمْتم من الخوف والحزن والتعب، ومِن كل سُوء).

الآية 24، والآية 25: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يعني ألم تعلم أيها الرسول ﴿كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ – وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) – فشَبَّهَها سبحانه ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾: أي شجرةٍ عظيمة، وهي النخلة التي ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾: أي جذورها مُتمكنة في الأرض، ﴿وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ يعني: وأعلاها مرتفع نحو السماء ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾: أي تُعطِي ثمارها كل وقتٍ ﴿بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ ومَشيئته (وكذلك شجرة الإيمان: أصلها ثابت في قلب المؤمن (عِلمًا واعتقادًا)، وفَرْعُها – من الأعمال الصالحة والأخلاق الحَسَنة – يُرفَعُ إلى اللهِ تعالى ويُنال ثوابه في كل وقت)، ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي لِيَتَّعظوا ويَعتبروا فيَجتهدوا في فِعل ما يَنفعهم.

الآية 26: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ – وهي كلمة الكفر – ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ أي خبيثة الطعم، وهي شجرة الحَنظل المُرَّة، التي ﴿اجْتُثَّتْ﴾ أي اقتُلِعت ﴿مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ﴾؛ لأنّ جذورها قريبة من سطح الأرض، و﴿مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ أي ليس لها أصلٌ ثابت، ولا فرعٌ صاعد)، وكذلك الكافر: لا ثباتَ له ولا خيرَ فيه، ولا يُرْفَع له عملٌ صالح إلى اللهِ تعالى).

الآية 27: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ – وهم المؤمنون الصادقون العاملون – فهؤلاء قد وَعَدَهم اللهُ تعالى أن يُثَبّتهم ﴿بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ أي بالحق الراسخ (وهو شهادة ألاَّ إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله)، فيُثَبّتهم اللهُ بها ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ مَهما كانت الفِتَن والمِحَن، حتى يُوَفّقهم لنُطقها وهُم في سَكَرات الموت، ﴿وَفِي الْآَخِرَةِ﴾ أي يُثَبِّتهم عليها في القبر (إذ هو عَتَبة الدار الآخرة)، وذلك عند سؤال المَلَكين، فيَهديهم سبحانه إلى الجواب الصحيح ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾ عن الصواب في الدنيا والآخرة، ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ من توفيق أهل الإيمان وخِذْلان أهل الكفر والطُغيان.

الآية 28، والآية 29: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ – وهم كفار قريش، الذين اختاروا الكفر على توحيد اللهِ تعالى، بدلاً من أن يشكروه على نعمة الأمن بالحرم وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيهم؟! – ﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ يعني: وقد أنزلوا أتْباعهم دارَ الهلاك – حين أخرجوهم إلى “بدر” – فقُتِلوا وصارَ مَصيرهم إلى ﴿جَهَنَّمَ﴾ التي ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾ أي يَدخلونها ويُعانونَ من شدة حَرّها ، ﴿وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ أي: وبئس المُستقَرّ جهنم.

الآية 30: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ يعني: وقد جعل هؤلاء الكفار شركاءَ للهِ تعالى فعَبدوهم معه ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾: أي ليُبْعدوا الناسَ عن دين الله، ﴿قُلْ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾: أي استمتِعوا في الحياة الدنيا فإنها سريعة الزوال، وإنّ مَصيركم بعدها إلى عذاب جهنم.

الآية 31: ﴿قُلْ﴾ أيها الرسول ﴿لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي يُؤدّوا الصلاة في أوقاتها، بشروطها وأركانها (في خشوعٍ واطمئنان)، ﴿وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ – مِن أنواع المال – ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ أي في الخَفاء والعَلن ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ وهو يوم القيامة، الذي ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ أي ليس فيه بيعٌ ولا ربحٌ ولامالٌ تفتدونَ به مِن عذاب اللهِ تعالى، ﴿وَلَا خِلَالٌ﴾ يعني: ولا صداقة صديق تنفعكم في ذلك اليوم (إلا مِن بعد أن يَأذَن اللهُ – بالشفاعةِ – لمن يَشاءُ ويَرضى).

الآية 32، والآية 33، والآية 34: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ على هذا النظام البديع المتقَن، ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ فأحيا به الأرض بعد موتها، ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ من جميع أنواع الفاكهة والخضروات والحُبوب، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ﴾ أي ذلَّل لكم السُفن ﴿لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ أي بتدبيره سبحانه، وبأمْرِهِ للبحر أن يَحملها رغم ثِقَلها (وذلك لقضاء مَصالحكم، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ﴾ لسُقياكم وسُقيا مَواشيكم وزروعكم وغير ذلك من منافعكم، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ﴾ أي مُستمِرّان في حركتهما لا يَتعبان، حتى تتحقق بهما مصالح العباد، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ﴾ لتسكنوا فيه وتستريحوا، ﴿وَالنَّهَارَ﴾ لِتسعَوْا فيه في طلب رِزقكم ﴿وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ يعني: وأعطاكم سبحانه من كل ما طلبتموه، وكذلك أعطاكم مِمّا لم تطلبوه، فإنّ هناك أشياء لم يَطلبها الإنسان، وأعطاها اللهُ له.

﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ يعني: وإن تعُدُّوا نِعَم اللهِ عليكم لا تستطيعوا حَصْرَها; وذلك لكثرتها وتنوُّعها (لِذا فتذكَّروا نِعَمه سبحانه، واشكروه عليها، مع استشعاركم – أثناء الشكر – بعَجْزكم عن القيام بشُكره عليها كما يَجب)، واستخدموا نِعَمه في طاعته، ولا تُشرِكوا به شيئاً، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾ – الذي حُرِمَ الهداية – ﴿لَظَلُومٌ﴾ أي كثير الظلم لنفسه لمُقابلته لِنِعَم اللهِ بالمعاصي، ﴿كَفَّارٌ﴾ أي كثير الجُحود لِنِعَم ربه.

 

 

  1. الربع الثاني من سورة إبراهيم

الآية 35، والآية 36: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ أي اذكر أيها الرسول حين قال إبراهيمُ – داعيًا ربه، بعد أن أسْكَنَ ابنه وزوجته وادي “مكة” -: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ﴾ – أي مكة – ﴿آمِنًا﴾ مِن كل خوف، ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ﴾ يعني: وأبعِدني وأبنائي عن ﴿أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ﴾ – أي الأصنام – قد ﴿أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾: أي تسبَّبتْ في إبعاد كثير من الناس عن طريق الحق ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي﴾ أي اقتدى بي في التوحيد: ﴿فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ أي على ديني، ﴿وَمَنْ عَصَانِي﴾ أي خالفني في شيءٍ أقل من الشرك: ﴿فَإِنَّكَ غَفُورٌ﴾ لذنوب المذنبين – بفضلك – ﴿رَحِيمٌ﴾ تعفو عمَّن تشاءُ منهم.

الآية 37: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ أي مِن بعض ذريتي – وهو “إسماعيل” وأمّه “هاجَر” – ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ أي: وادي ليس فيه زرعٌ ولا ماء ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ ﴿رَبَّنَا﴾ إنني فعلتُ ذلك بأمْرك ﴿لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ في مكة، (ولَعَلَّه خَصّ الصلاة بالذِكر لأنها العبادة التي تشتمل على الذِكر والشُكر) ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾: أي اجعل قلوب بعض خَلقك تَحِنّ إليهم وتَميل (رغبةً في الحج والعمرة) ﴿وَارْزُقْهُمْ﴾ في هذا المكان ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ أي لكي يَشكروا نِعَمَك العظيمة عليهم (فاستجاب اللهُ دعاءه).

الآية 38، والآية 39: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾ أي تَعلم سبحانك كل ما نُخفيه وما نُظهره (ومِن ذلك عِلمك بحزني على ترْك إسماعيل وأُمّه في هذا المكان، فاحفظهم)، ﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾.

 ♦ثم أثْنَى إبراهيم على اللهِ تعالى قائلاً: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ﴾ أي رَزقني – رغم كِبَر سِنِّي – وَلديَّ ﴿إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ بعد أن دعوتُهُ أن يَهَب لي من الصالحين ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ مِمَّن دعاه، وقد دعوتُهُ ولم يُخيِّب رجائي.

الآية 40: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ﴾ أي اجعلني مُداوِمًا على أداء الصلاة على أتمّ وجوهها، ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ يعني: واجعل مِن ذريتي مَن يُحافظ عليها، ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾: أي استجب دعائي وتقبَّل عبادتي.

الآية 41: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي﴾ ما وقع مِنّي مِمَّا لا يَسلم منه البشر ﴿وَلِوَالِدَيَّ﴾ أي: واغفر لوالديَّ – وهذا قبل أن يَعرف أنّ والده سوف يموت على الشِرك -، فلمَّا تبيَّنَ له أنه عدوٌ للهِ تبرَّأَ منه (كما جاء في سورة التوبة)، ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ أي: واغفر للمؤمنين يوم يقوم الناس للحساب والجزاء، (واعلم أنّ استخدام لفظ “يقوم” مع “الحساب” هو كقول العرب: (قامت الحرب على ساق)، يقصدون بذلك: اشتداد الأمر، وصعوبة الحال).

الآية 42، والآية 43: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ – أيها الرسول – أنّ ﴿اللَّهَ﴾ تعالى ﴿غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ مِن تكذيبك وإيذاء المؤمنين، وغير ذلك من المعاصي، بل هو عليمٌ بأفعالهم، و﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ﴾ أي يؤخِّرُ عقابهم ﴿لِيَوْمٍ﴾ شديد – وهو يوم القيامة – الذي ﴿تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ أي تتفتح فيه العيون على آخرها (وذلك مِن هَول ما تراه)، وتراهم يقومون مِن قبورهم ﴿مُهْطِعِينَ﴾ أي مُسرعين لإجابة الداعي (الذي دعاهم للقاء اللهِ تعالى للحساب)، ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾: أي رافعي رؤوسهم ﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾: أي لا تستطيع عيونهم الإغماض ولو لحظة، ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ يعني: وقلوبهم خالية (لا تستطيع التفكير في شيء)، وذلك من شدة الخوف والفزع.

الآية 44، والآية 45: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ﴾ عذابَ يوم القيامة ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾: ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ يعني أَمْهِلْنا إلى وقتٍ قريب: ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾، فيُقالُ لهم توبيخًا: ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ في حياتكم أنكم ﴿مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ أي لا زوالَ ولا ارتحالَ لكم من الدنيا إلى الآخرة، ولم تصدِّقوا بهذا البعث؟ ﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ وهم الكافرونَ السابقون لكم، ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ من الهلاك ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾ في القرآن فلم تعتبروا؟

 ♦واعلم أنّ المقصود بالسَكَن – في قوله تعالى: ﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ – هو النزول في أماكن الظالمين لوقتٍ يكفي للاتّعاظ والاعتبار)، وقد كان كفار قريش يَمُرُّونَ على ديار ثمود أثناء رحلتهم إلى الشام، وكانوا يَنزلون على ديار قوم عاد (للاستراحة) أثناء رحلتهم إلى اليمن.

الآية 46: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ أي دَبَّرَ المشركون الشرَّ للرسول صلى الله عليه وسلم، ﴿وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ لأنه سبحانه مُحيطٌ بما يقولونَ ويفعلون، ولذلك أعادَ مَكْرَهم عليهم، ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ يعني: وما كانَ مَكْرُهم بالذي تزول منه الجبال ولا غيرها، فإنه تافهٌ لا قيمةَ له، فلا تهتم بمَكْرِهم أيها الرسول ولا تلتفت إليه.

الآية 47، والآية 48: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾: أي لا تحسبْ أنّ اللهَ تعالى يُخلِف رُسُله ما وَعَدَهم به (مِن النصر وإهلاك المُكذبين)، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ لا يَمنعه شيءٌ مِن فِعل ما يريد، ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾: أي صاحب انتقام شديد مِمّن عَصاه وعَصى رُسُلَه وحارَبَ أولياءه.

 ♦واذكر أيها الرسول يوم القيامة ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ﴾ فتَصير ﴿غَيْرَ الْأَرْضِ﴾ التي يَعيشون عليها ﴿وَالسَّمَوَاتُ﴾ أي: وكذلك تُبَدَّلُ السماوات بغيرها، ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ﴾: أي خرجتْ الخلائق يومئذٍ من قبورها للقاء اللهِ ﴿الْوَاحِدِ﴾ – في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله – ﴿الْقَهَّارِ﴾ لكل شيء.

 ♦واعلم أنّه قد ثبت في صحيح مُسلم أنّ رجلاً يهودياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أين يكون الناس يوم تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض والسماوات؟)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (في الظُلمة دونَ الجِسر) – أي في الظلام على الصراط الممدود فوق جهنم (وهو الطريق الذي سَيَعبُر عليه الناس) – فقال اليهودي: (فمَن أول الناس إجازة؟) – أي مروراً على الصراط – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فقراء المهاجرين)، فقال اليهودي: (فما تُحفتهم – يعني ما هي أول ضيافتهم – حين يدخلون الجنة؟)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (زيادة كبد النون) – والنون هو الحوت، وزيادة كبد الحوت: هي القطعة المنفردة المتعلقة بالكبد، وهي أطيَبها وألَذَّها – فقال اليهودي: (فما غذاؤهم على إثرِه؟) – أي بعد أن يأكلوا زيادة كبد الحوت – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يُنحَر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها)، فقال اليهودي: (فما شرابهم عليه؟) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مِن عينٍ فيها تُسَمَّى سلسبيلاً) فقال له اليهودي: (صدقتَ).

الآية 49، والآية 50، والآية 51: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ﴾ – أي يوم القيامة – ﴿مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾: أي مُقيَّدينَ بالقيود،  وتكونُ ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ أي: ثيابهم مِن قَطِران (وهي مادة سوداء شديدة الحرارة، سريعة الاشتعال)، ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ أي تحيط النار بوجوههم فتَشويها وتُلهِبها من كل جانب، وليس هذا ظلماً مِن اللهِ لهم، وإنما هو جزاءٌ لِمَا قدَّموه في الدنيا، ولهذا قال تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ مِن الخير والشر ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ لا يُعجزُهُ إحصاءُ أعمالِهم، ومُحاسبتهم عليها.

الآية 52: ﴿هَذَا﴾ القرآن – الذي أنزلناه إليك أيها الرسول – هو ﴿بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾ يعني أمَرَكَ اللهُ بتبليغه للناس لهدايتهم ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ يعني: ولِيُخَوِّفهم من عذاب اللهِ تعالى ﴿وَلِيَعْلَمُوا﴾ – بما فيه من الدلائل والبراهين – ﴿أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وهو اللهُ الواحد الأحد، فيَعبدوه وحده ولا يُشركوا به ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ يعني: وليَتَّعظ به أصحاب العقول السليمة، فيَعملوا على إنجاء أنفسهم من غضب اللهِ وعذابه، ليَفوزوا برحمته ورضوانه.

 المراجع

إقرأ أيضا:السن الأفضل لتعليم الطفْل القُرآن

“التفسير المُيَسَّر” (بإشراف التركي)،

“تفسير السّعدي” ،

” أيسر التفاسير” لأبي بكر الجزائري

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
ما قصة الضفدع مع إبراهيم عليه السلام ؟ وماهو الحيوان الذي كان يرمي الحطب على نار إبراهيم ؟ وما حكم قتلهما ؟
التالي
ما هو المرمر أو الأونيكس أو الجزع

اترك تعليقاً