مقالات ونصوص متنوعة

نص نثري بعنوان الصبّار بقلم أشرقت حاتم العميري

عمري سبعة عشر عاما، وأنا في المرحلة الثانويّة، أيّ المرحلة التي تقلني إلى أحلامي التي وضعتها في كفّ الرجاء وأرسلتها إلى الله، ورجائي بالله أن أحققها يوما، رغم أنّي لا أستطيع أن أتجاهل أصوات البلبة والرهبة على أحلامي إلا إنّني سأجعل صوت يقيني بأحلامي يعلو أكثر من صوت البلبة والرهبة. وبدأت أذاكر بجدّ ومثابرة إلا إنّني في وقت نتائج الامتحانات الشهريّة لم أحصل على النتائج التي أطمح إليها، حينئذ شعرت بالغمّة، وبينما كنت جالسة على مقعدي أنظر إلى علاماتي بأسى لاحظت زميلتي بالصف ذلك، وقالت لي كلمات كلمّا تذكرتها زادتني إصرارا إلى الوصول: “إنّ ضعفك في هذه الاختبارات ستكون هي الفرصة التي تتيح لك البدء من جديد بذكاء أكبر”.

  ومن هنا، أضرمت شعلة في نفسي سحبتني إلى التفكير “كيف أبدأ من جديد بذكاء أكبر”، ونظرت إلى أخطائي في ورق الامتحانات، وذاكرت تلك الأخطاء أكثر من مرة، حتى أصبحت أجيب عليها بمجرد النظر إليها، وبذلك لم يضرّني الأمر مثلما نفعني.

إقرأ أيضا:الوقاية من تكسر الدم

ولكن بعض الأحيان، تراودني بعض الأفكار التي لا تريح فؤادي، وكأنّ الوقت الذي يفصلني عن أحلامي لا ينتهي، فأشعر بالإحباط على طول ذلك الوقت، وأجد قدماي تهرول تلقائيّا إلى والدتي التي لا يطمئن فؤادي إلا لها، وتسقط حروفي تباعا في حجرها، لتهديني كلماتها التي تبلسّم على روحي، فأعود إلى كتبي لألتهمها بنشاط وجدّ.

وأخيرا، بعد كلّ ما مررت به من تعثر في دراستي وتلاطم في مشاعري، أنهيت الفصل الدراسيّ الأول من مرحلة الثانويّة. فركلت كتبي كي احتضن مجالسة عائلتي ورواياتي. لكنّ إجازتي كانت مثل رمشة العين قصيرة، ووجدت نفسي أقف على عتبات الفصل الدراسيّ الثاني. استيقظت في الصباح الباكر أستعد وأنتظر والدي كي يقلني إلى المدرسة، وكعادتنا أنا وأبي تسامرنا في الطريق ولكن هذه المرة تختلف عن باقي المرات؛ كانت طريقة نقاشه جادّة على غير العادة، فقال لي:”إيّاك والتخلي عن أحلامك مهما واجهتي صعوبات في الطريق إليها؛ لأنّك ستغرقي في الندم إن تخليتي عنها..”

وبدأت بالمزاح والهزل معه، ولم أأخذ الأمر على محمل الجدّ، حين وصلنا إلى المدرسة ودّعته وذهب كلّ منّا في طريقه. كونّه اليوم الأول لقد كان خفيف الظل وانتهى سريعا. عدّت إلى المنزل بدلت ثيابي وتناولت طعامي وذهبت إلى السرير كي أأخذ قيلولة، وحينما استيقظت تلقيت صدمة كبيرة؛ أخبرتني أختي أنّ أبي سقط أرضا ونقلوه إلى المستشفى، لم أهضم قولها؛ لأنّه لم يكن والدي يعاني من أيّة أمراض. هاتفت والدتي لأطمئن عليه، همست بحزن:”الأطبّاء يقولون أنّ لديه مرض القلب، ووضعه سيء للغاية”، وأغلقت الهاتف بعد تلك الكلمات التي كانت مثل السهام في فؤادي.

إقرأ أيضا:نص نثري بقلم ماريا عادل ورده

وضعت سجادتي باتجاه القبلة ورفعت قنديلي إلى الله أناجيه وكلّي يقين بأن يوقده ويردّ له عافيته، ولكنّه مضى اليوم الأول والثاني وحتى اليوم الخامس ولم يحدث أيّ تغيير في وضعه الصحيّ، وكالعادة هاتفت والدتي كي أطمئن عليه، فكلماتها هذه المرة تختلف عمّا كانت تقوله سابقا أنّه سيتعافى، وقالت:”إذا جاء خبر وفاة والدك لا تصرخي وادعي له بالرّحمة”، تحطمت روحي مثلما يتحطم الزجاج، وبدأت بالبكاء والدعاء، وقلت:”يا الله، أنا لست أحنّ على عبدك منك، فاختر له ما يريح روحه”، وبعد دعائي هذا شعرت أنّ والدي لن يكمل الدرب معنا، لكنّي كابرت وحاولت أن أنكر شعوري.

وأتى اليوم السابع من دخول والدي إلى المستشفى، وقرر أخي الكبير أن يجتمع بنا، فقال:”يجب أن نخضع للواقع، الأطباء يقولون أن وضع والدنا سيئا للغاية، ولا يحدث أيّ تحسن”، فبدأت دموعي تنهمر من عيني كالشلال، وبدأت أفكر هل ما أعيشه حلما أم واقعا! وكيف تغير كلّ شيء بعد استيقاظي من النوم!

مئات الأفكار تتلاطم في فكري، ولكن من الداخل كنت أعلم أنّ الله لن يضر عبده، وهذا ما كان يطمئنني.

إقرأ أيضا:ثقب الغشاء المغلف للجنين

وها نحن في اليوم الثامن لوالدي في المستشفى، ومضوا والدتي وإخوتي إلى والدي فلم يجدوه في غرفته التي كان يقيم فيها، وعندما سألوا الأطبّاء عنه، قالوا:”المريض قد فارق الحياة”، فانهار الجميع بالبكاء، وكان ذلك الخبر كانفجار البركان في داخلي، وأدركت حينها أنّه بتر أعظم جناح كنت أحلق فيه، عانقت إخوتي وبقلب محترق قلت:”قدوتنا توفي وأضحينا بلا سند”، حينها عانقنا بعضنا البعض والحزن سادسنا حتى وصل جثمان والدي لكي نودعه الوداع الأخير، عانقت جثمانه وقلبي مشتعل بالنيران، ولساني يهمس في أذنه:”وداعا يا مهجة قلبي، وداعا يا رفيق دربي”.

بعد ذهاب جثمانه إلى الأبد، جالست القرآن وقرأته عن روحه ودموعي تسيل على خدي، كان حولي مئات الأشخاص الذين يواسوني بفقدي له، إلا أنّ شعور الوحدة والضعف والخوف تملّك من روحي.

مرّت أمام عيني لحظاتنا الجميلة، فبكيت بحرقة قلب على أكبر خسارة تعرضت لها في حياتي، وعندما حلّ الليل لم يزرني النوم، فتركت فراشي قاصدة الوضوء، فخالطت دموعي ماء الوضوء وقلبي يفيض من الحزن، سجدت شاكيّة لله:”اللهم أنّي أشكي بثي وحزني إليك، اللهم إنّ قلبي اثخنه الهمّ على فراق والدي فاكبح جماح حزني، وارحم والدي واسكنه فسيح جنانك وأنر قبره، اللهم أعني على أن أكمل طريق الوصول إلى أحلامي لأنفذ وصيّة أبي لي، وبسم الله على أحلامي حتى نتعانق..

وفي اليوم الخامس رافقت كتبي، وعدت إلى مشواري رغم الحروب الهيجاء المقامة في داخلي، فكنت أذكار في عين وأبكي في الأخرى، كلّ الحروف التي أرسلتها إلى دماغي كانت تحمل آلاف الدموع، ورغم هذا العسر إلا إنّني لم أفكر يوما بالتخلي والتراجع، كنت أعلم أنّ الله يعطي أصعب المعارك لأقوى جنوده..

كان صوت يهمس في أذني:”أنت قادرة على تحقيق مُرادك، والله يعلم بهذا؛ لذلك وضعك في هذه المعركة”، كلما هاجمتني أحزاني وحاولت الانتصار عليّ تذكرت ابتسامة أبي وتخيلتها يوم نجاحي، وكانت ابتسامته أكبر حافز لي كي أهرول في طريق النجاح، لقد كانت حربا مؤلمة لكنّي انتصرت مثلما تنتصر نبتة الصبّار على ظروف الحياة.

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
نص نثري بقلم لين إرشيد
التالي
“حُبٌ بطعمِ السِحر، بقلم الكاتبة: سارة نِضال الصفدي” “خاطرة”

تعليق واحد

أضف تعليقا

  1. This is the perfect blog for anyone who wishes to find out about this topic. You understand so much its almost hard to argue with you (not that I actually would want toÖHaHa). You definitely put a brand new spin on a topic that has been discussed for many years. Excellent stuff, just great!

اترك تعليقاً