خاطرة

“رسالة إنتحار”، بقلم: ياسر عاطف الشمالات.

“رسالة إنتحار ”

كُتِب هذا النَّص قبل ما يُقارب تسعةَ عشرةَ سنة، ما يُقارب ربع القرن ، تقريباً قبل عدةِ لحظات، تختِلُف فيه الأوقات، تختِلفُ بهِ الكلمات والمعاني بين سنةٍ وأخُرى، قُمتُ بتعديلهِ كثيراً خلال نِصف ساعة إستغرقَ كِتابتهُ خمسةُ أيام، وواحدٌ وعشرون ساعة، والقليل مِن الدقائق، والكثيرُ الكثير مِن الثواني.

أمّا أنا حينُها لَم أكُن أنا، كُنتُ جُثةٌ مُلقاةً على قارِعة الطريق، وكانت هي إمام المسجد الذي أخبر أهالي القرية بِوفاتي، كُنتٌ شخصْ لا يُعوض أبداً، لستُ كما أنا الآن، أعُوض بـ أبسط الأشياء، كُنت أخافُ مِن الظلُمة إلى أنْ أصبحَت ظالم، وقد كُنت أخاف كثيراً مِن النوم لـوحدي بغرُفةٍ خاليةٍ مِن النور، إلى أنْ أصبحتُ وحيدٌ في مُنتصفِ النّهار، لم أتعلم يوماً العزف على آلةِ الكمان، ولكن كُنت أبكي عند سماعي لهُ، لم أكُن أعلم أن الموت هو خروج الروح مِن الجسد، لقد كُنتُ حينها شخصٌ يتكلم ويسمع ويرى، وأحياناً يبكي.

كانت هذهِ أولُ رسالةِ إنتحار كتبتُها، لقد كُنت أود الإنتحار بتمزيق يدي، أو عن طريقِ تناول الكثير مِن الأدوية، أو القفز مِن أعلى المبنى، لم أكُن أعلم أنَّ ما يحصُل لي حينها كان إنتحارٌ بِ طريقةٍ مُخيفة، فـَ قررتُ القفز مِن أعلى المباني، إستغرقَ صُعودي إلى حافة المبنى الكثير مِن المشاعر، الكثير مِن التفكير، الكثير مِن ألم الرَّأس، لم أصِل إلا بعد فترةٍ تجاوزت التفكير بِما قد يحصُل بعدَ مرورِ أربعون يوماً على وفاتي.

إقرأ أيضا:نص نثري بقلم بشرى احمد طقش

نظرتُ إلى الأرضِ مِن أعلى البناية، وجدتُ كُل مِن أحببتهم فـِ الأسفل، جميعهُم ينتظرون قدُومي، أغمضتُ عيناي فـ رأيتُ أبي وفي عيناه نظرةُ حُبٍ وخوف، أمّا أمُي كانت تُصلي وتبكي، كان قلبها قد أصبّح عجوزاً يتكئُ على حافة صدرها، عِندما فتحتُ عيناي وجدتُ نفسي في الهواء، إستغرق هبوطي ما يُقارب اليومان، رأيتُ أصدقائي، رأيتُ نفسي، رأيتُ مَن أحببتها ولم تكترث، رأيتُ نفسي أُحقق ما أُريد، رأيت أبي مرةٌ أُخرى وكان رأسهُ أبيض، رأيتُ أمي وكانت مليئةٌ بالتعب، رأيت ما لم أراه يوماً، رأيتُها ترتدي الأبيض وثغرهُا مُبتسم، وكانت تتشبث بِيدهِ وكأنها لا تُريد مِنهُ أن يذهب، لقد رأيتُ نفسي شاهداً على زفافها مِن أحد أصدقائي الذي لم أُحبِه يوماً، وما زِلتُ أهبِط، ولم أصِل إلى الأرض حتّى هذهِ اللحظة.

كانَت الطريقة التي إخترتها للإنتحار فاشلةٌ حقاً، لم أكُن أعلم أنَّ ما يحصُل هو الإنتحار بحدِ ذاته، يحدُث أن تُصبح لامُبالي، أقصد أن تُصبِحَ تشعُر باللاشعور، أقصد أنْ لا تُميّز بين الُحب والحُب، أنْ تُصبح وحيداً في عالمٍ لا يقبل الوحدةَ أبداً، ولكن بالرُّغم مِن بشاعةِ هذا الشعور ألا أنّك لا تجدُ البديل لما يحصُل، أنتَ ضائعٌ بين هذا وذاك، بين قلبك وعقلُك، بين نفسُك ونِفسُك، أنتَ تائهٌ حقاً، وعليك أن تجدَ الطريق، الطريق الذي لم يِسلكهُ أحد؛ لأنَّه طريقٌ شائكٌ مليئٌ بالعثرات، وفي نهايتهِ أحلامٌ قد تتحقق، وشخصٌ لا يُنسى.

إقرأ أيضا:مِت حين مُت بقلم راما موفّق الربابعة

وفي نهاية رسالتي، إن كُنتَ تودُ الإنتحار حقاً، فـ عليك بِحُبٍ صادقٍ لـ شخصٍ لا يكترث، حينهَا ستجدُ نفسُك تسقُط مِن أعلى تلك البناية، ستسقطُ حتماً، ولكنك لن تصلَّ الأرض أبداً، ستبقى مُعلقاً في الفراغ، فراغٌ خالٍ مِن اللاشيء، مليئٌ بِما تُحِب، ولكنهُ فراغ.

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
من هو حبيبي بقلم براءة احمد الكردي
التالي
“التّائهة” بقلم آمال مسعود عبد ربه (خاطِرة)

اترك تعليقاً