أخبار العالم - حول العالم

موضوع عن فضل واهمية العلم

ويقول الغزالي -رحمه الله- كما في كتابه “إحياء علوم الدين: 1/13”:

واعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره، وإلى ما يطلب لذاته، وإلى ما يطلب لغيره وذاته جميعا، فما يطلب لذاته أشرف وأفضل مما يطلب لغيره، والمطلوب لغيره: كالدراهم والدنانير، ولولا أن الله تعالى يسر قضاء الحاجات بهما لكانا والحصباء بمثابة واحدة، والذي يطلب لذاته: كالسعادة في الآخرة ولذة النظر لوجه الله تعالى، والذي يطلب لذاته ولغيره: كسلامة البدن، فإن سلامة الرجل مثلا مطلوبة من حيث أنها سلامة للبدن عن الألم، ومطلوبة للمشي بها والتوصل إلى المأرب والحاجات وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذا في نفسه فيكون مطلوبا لذاته، ووجدته وسيلة إلى الدار الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى، ولا يتوصل إليه إلا به، وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل.

فأصل السعادة في الدنيا والأخرة هو العلم، فهو إذن أفضل الأعمال وكيف لا؟ وقد تُعرَفُ فضيلة الشيء بشرف ثمرته، وثمرة العلم هي القرب من رب العالمين، والالتحاق بأفق الملائكة، ومقارنة الملأ الأعلى، هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فالعز والوقار، ونفوذ الحكم على الملوك، ولزوم الاحترام في الطباع. أه بتصرف واختصار.

إقرأ أيضا:كيف تكتشف موهبتك بقلم: زكرياء الحداد

أولا: فضل العلم من كتاب الله عز وجل-

 

1- العلم يُزكي صاحبه ويُعلي من شأنه:

قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (آل عمران:18)

يقول بن القيم -رحمه الله- كما في مفتاح دار السعادة: 1/219″:

 وهذه الآية تدل على فضل العلم وأهله من وجوه:

1- استشهادهم دون غيرهم من البشر.

2- اقتران شهادتهم بشهادتِهِ سبحانه.

3- اقترانُها بشهادة الملائكة.

4- إنَّ في ضمن هذا: تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، وقد جاء في الحديث:” يحملُ هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُه، ينفونَ عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين”.

    (رواه ابن عدي في الكامل، وابن أبي حاتم وصححه الألباني)

5- أنه سبحانه استشهد بنفسه وهو أجلُّ شاهد، ثم بخيار خلقه وهم ملائكتُهُ والعلماء من عباده، ويكفيهم بهذا فضلا وشرفا.

6- أنه استشهد بهم على أجلِّ مشهود به وأعظمه وأكبره، وهو شهادةُ أن لا إله إلا الله، والعظيم القدر إنما يستشهد على الأمر العظيم أكابرَ الخلق وساداتِهم.

إقرأ أيضا:

 

وقال السعديُّ -رحمه الله- في تفسيره عند الآية السابقة:

 في هذه الآية فضيلة العلم والعلماء، لأن الله خصَّهم بالذكر، من دون البشر، وقرن شهادتهم بشهادته، وشهادة الملائكة، وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده ودينه وجزائه، وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة. وفي ضمن ذلك: تعديلهم، وأن الخلق تبع لهم، وأنهم هم الأئمة المتبوعون، وفي هذا من الفضل والشرف، وعلو المكانة، ما لا يُقادَرُ قَدْره “. أه

 

ومما يدل على هذا أيضا قوله تعالي: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ (الرعد: 43)

فهذه الآية تدل أيضاً على شرف العلم وفضل العلماء حيث قرن الله تعالي شهادته بشهادتهم علي صدق بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

2- العلم نورٌ وهاج في قلب صاحبه يكشف له عن حقائقِ الأمور، بخلاف أهل الجهل فهم بمنزلة العُميان:

قال تعالى: ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ (الرعد: 19)

إقرأ أيضا:طريقة عمل كفتة الدجاج

يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في مفتاح دار السعادة: 1 /222:

“جعل – سبحانه-أهلَ الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون، فقال تعالى:(أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) فما ثم إلا عالم أو أعمى، وقد وصف سبحانه أهل الجهل بأنهم صم بكم عمي في غير موضع من كتابه. أه

فالعلمُ حياةُ القلوبِ من العمى، وقوة للأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى، وهو إمام للعمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء.

وقال السعدي -رحمه الله-: ” في تفسيره “تيسير الكريم الرحمن ص371”

“يقول تعالي مفرقا بين أهل العلم والعمل وضدهم: ” أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ ” ففهم ذلك، وعمل به” كَمَنْ هُوَ أَعْمَى” لا يعلم الحق، ولا يعمل به، فبينهما من الفرق، كما بين السماء والأرض، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر، أي الفريقين أحسن مآلا، وخير حالا، فيؤثر طريقها، ويسلك خلف فريقها، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره.” إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ” أي: أولو العقول الرزينة، والآراء الكاملة، الذين هم لب العالم، وصفوة بني آدم.

قال سابق البربري في قصيدة له:

 والعلمُ يجلو عن قلبِ صاحبه       كما يُجلِي سوادَ الظلمَةِ القمرُ

وليس ذو العلم بالتقوى كجاهِلِها      ولا البصِيرُ كأعمَى ماله بصرُ

يقول أحمد بن عمر بن عصفور:

مع العلم فاسلك حيث ما سلك العلم     وعنه فكاشفْ كل من عنده فهمُ

ففيه جلاءٌ للقلوب من العمى     وعونٌ على الدين الذي أمرُهُ حتمُ

فإني رأيتُ الجهلَ يزرِى بأهلهِ     وذو العلمِ في الأقوام يرفعُه العلمُ.

        (جامع بيان العلم وفضله: 1/219)

 

والله تعالى سلى نبيه بإيمان أهل العلم به وأمره ألا يعبأ بالجاهلين شيئا

قال تعالى: ﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ (الإسراء:106- 108)

وهذا شرف عظيم للعلم ولأهله

3-العلم يرفع صاحبه في أعلى الدرجات والمراتب بعد الأنبياء:

 قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ (المجادلة: 11)

قال القرطبي: ” -رحمه الله-: في تفسيره “الجامع لأحكام القرآن: 17/285”

وقوله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) أي: في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع الله المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه مدح الله العلماء في هذه الآية. والمعنى: أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم “درجات” أي: درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به “. أه

ويقول بن القيم -رحمه الله- في” كتابه الفوائد ص138″:

أفضل ما اكتسبته النفوسُ وحصلته القلوبُ، ونال به العبد الرفقة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله:( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ” (الروم: 56)

وقوله” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: 11)

 

ومما يدل على أن هذا العلم يرفع الله به أقواما ويضع به آخرين:

ما رواه الإمامُ مسلمٌ عن عمر بن الخطابرضي الله عنه أن نافع بن عبد الحارث الخزاعي لقيه بعُسْفَانَ، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى. قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجلوإنه عالم بالفرائض. قال عمررضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: “إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين”.

وقال الحجاج لخالد بن صفوان: من سيد أهل البصرة؟ فقال له: الحسن. فقال الحجاج: وكيف ذلك وهو مولى؟

فقال: احتاج الناس إليه في دينهم واستغنى عنهم في دنياهم، وما رأيت أحدا من أشراف أهل البصرة إلا وهو يروم الوصول في حلقته إليه ليستمع قوله ويكتب علمه. فقال الحجاج: هذا والله السؤدد.

 ويقول أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبدا أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاة قال: وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء، هو وابناه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى أنفتل إليهم فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما. وقال: يا ابني، لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.

  (الفقيه والمتفقة للخطيب البغدادي:1/31)

وقال محمد بن القاسم بن خلاد: كان الأوقصُ قصيراً دميماً قبيحاً، قال: فقالت لي أمي، وكانت عاقلة: يا بني، إنك خلقت خلقة لا تصلح لمعاشرة الفتيان، فعليك بالدين، فإنه يتم النقيصة، ويرفع الخسيسة، فنفعني الله بقولها، وتعلمت الفقه، فصرت قاضيا”   (الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي:1/32)

 

وقال أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان عنق محمد بن عبد الرحمن الأوقص داخلا في بدنه، وكان منكباه خارجين كأنهما زوجان، فقالت له أمه: يا بني لا تكون في قوم إلا كنت المضحوك منه، المسخور به، فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك. قال: فطلب العلم. قال: فولى قضاءَ مكةَ عشرينَ سنة، وكان الخصم إذا جلس بين يديه يرعد حتى يقوم.

 

قال الشافعي -رحمه الله- في ديوانه ص153:

رأيت العلم صاحبه شريف       وإن ولدته آباء لئامُ

وليس يزال يرفعهُ إلى أن       يعظم قدره القوم الكرامُ

ويتبعونه في كل أمر       كراعِ الضأنَ تتبعه السوامُ

ويحمل قوله في كل أمر       ومن يك عالما فهو الإمامُ

فلولا العلم ما سعدت نفوس      ولا عرف الحلال ولا الحرامُ

فبالعلم النجاة من المخازي       وبالجهل المذلة والرغامُ

هو الهادي الدليل إلى المعالي     ومصباح يضئ به الظلامُ

كذاك عن الرسول أتى عليه      من الله التحية والسلامُ

    (جامع بيان العلم: 1/54)

فبهذا العلم رفع الله به أقواما، وجعلهم في الخير قادة وسادة يقتدي بهم، أدلة في الخير تقتفي آثارهم، تحفهم الملائكة بأجنحتها، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه.

 

4- لا يستوي أهل العلم بغيرهم في الفضل والمكانة:

 قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ (الزمر: 9)

 قال ابن القيم -رحمه الله-: كما في ” مفتاح دار السعادة:1/221″ “: إنه سبحانه نفى التسوية بين أهل العلم وبين غيرهم، كما نفي التسويةَ بينَ أصحاب الجنة وأصحاب النار، فقال تعالى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ (الحشر:20) وهذا يدل على غاية فضلهم وشرفهم. أه بتصرف

يقول أبو بكر بن دريد -رحمه الله-:

أهلاً وسهلاً بالذين أحبهم    وأودُّهم في الله ذي الآلاء

أهلا بقوم صالحين ذوي تقي   غر الوجوه وزين كل ملاءِ

ومدادُ ما تجري به أقلامهم    أزكى وأفضل من دم الشهداءِ

يا طالبي علم النبي محمد     ما أنتم وسواكم بسواءِ

وقال السعدي -رحمه الله-: في تفسيره ص666:

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) ربهم ويعلمون دينه الشرعي، ودينه الجزائي وما له في ذلك؟ من الأسرار والحكم، (وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) شيئا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليل والنهار، ولا الضياء والظلام، والماء والنار. (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ) إذا ذكروا (أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) أي: أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل، وطاعة الله على مخالفته، لأن لهم عقولا، ترشدهم للنظر في العواقب، بخلاف من لا لب له ولا عقل، فإنه يتخذ إلهه هواه. أه

5- أهل العلم طوق النجاة للناس في زمن الفتن وانتشار الجهل:

 قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (النحل: 43)

وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (الأنبياء: 7)

قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره 10/114″قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: أهلُ الذكرِ: أهلُ القرآن وقيل: أهل العلم، والمعني متقارب.

وقال السعدي في” تفسيره ص394″: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً) أي: لست ببدع من الرسل، فلم نرسل قبلك ملائكة، بل رجالا كاملين لا نساء “نُّوحِي إِلَيْهِم “من الشرائع والأحكام، ما هو من فضله وإحسانه على العبيد، من غير أن يأتوا بشيء من قبل أنفسهم، (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْر) وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب الله المنزل، فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث، وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم، وأنه بذلك يخرج الجاهل من التبعة، فدل على أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله، وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم، والاتصاف بصفات الكمال. أه

 

6- العلم يُنِير بصيرة صاحبه، ويجعله اللهُ حجةً على المعاندين المكذبين:

 قال تعالى: ﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ (سبأ: 6)

قال ابن القيم -رحمه الله-: كما في ” مفتاح دار السعادة:1/222″

 “أخبر- سبحانه-عن أولي العلم بأنهم يرون ما أُنزل إليه من ربه حقا، وجعل هذا ثناءً عليهم واستشهادا بهم.

وقال السعدّيُ -رحمه الله- في تفسيره ص621: ” لما ذكر- تعالى-إنكار من أنكر البعث، وأنهم يرون ما أنزل على رسوله ليس بحق، ذكر حالة الموفقين من العباد، وهم أهلُ العلم، وأنهم يرون ما أنزل الله على رسوله من الكتاب، وما اشتمل عليه من الأخبار، هو الحق، منحصر فيه، وما خالفه وناقضه فإنه باطلٌ، لأنهم وصلوا من العلم إلى درجة اليقين.

وهذه منقبةٌ لأهلِ العلم وفضيلةٌ، وعلامةٌ لهم، وأنه كلما كان العبدُ أعظم علماً وتصديقاً بأخبار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه، كان من أهل العلم الذين جعلهم الله حُجةً على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واحتج الله-تعالى- بهم على المكذبين المعاندين، كما في هذه الآية، وغيرها. أه باختصار

ويشبه الآية السابقة قوله تعالى:(أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (الأنعام: 114)

يقول ابن القيم -رحمه الله-كما في ” مفتاح دار السعادة:1/222″

شهد الله تعالى لأهل العلم شهادة في ضمنها الاستشهاد بهم على صحة ما أنزل الله على رسوله. أه

 

7- العلم يجعل صاحبه أكثر الناس تفكراً وتدبراً، فينتفع بالحجج والبراهين التي يضربها الله-  تعالى- للناس:

 قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ (العنكبوت: 43)

يقول ابن القيم -رحمه الله- في ” مفتاح دار السعادة:1/ 226″ في هذه الآية:

أخبر سبحانه عن أمثاله التي يضربها لعباده، ويدلهم على صحة ما أخبر به، أن أهل العلم هم المنتفعون بها المختصون بعلمها، وفي القرآن بضعةٌ وأربعون مثلا، وكان بعض السلف (سنان بن عمرو بن مُرة) إذا مر بمثل لا يفهمه يبكي ويقول: لستُ من العالمين. أه بتصرف

وقال بن كثير في تفسيره: “3/683”

ومعنى الآية وما يفهمُها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه. أه

 

8- العلم يمنح صاحبه المعرفة والنور وبهما يفرق بين الحق والباطل فلا يحيد عن الصراط المستقيم:

قال تعالى: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ (الحج: 54)

يقول السعدي -رحمه الله- في تفسيره ص491:

 وقوله تعالى:(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) وأن الله منحهم من العلم، ما به يعرفون الحق من الباطل، والرشد من الغي، فيفرقون بين الأمرين، الحق المستقر، الذي يُحِكمُه الله، والباطل العارض الذي ينسخه الله، بما على كل منهما من الشواهد، وليعلموا أن الله حكيم، يقيض بعض أنواع الابتلاء ليظهر بذلك كمائنَ النفوس الخيرة والشريرة. (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بسبب ذلك، ويزداد إيمانُهم، عند دفع المعارض والشبهة. “فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ “، أي: تخشع وتخضع، وتسلم لحكمته، وهذا من هدايته إياهم. (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا) بسبب إيمانهم، (إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) علمٍ بالحق، وعملٍ بمقتضاه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقولِ الثابتِ في الحياة الدنيا وفي الآخرةِ، وهذا النوعُ من تثبيت الله لعبده.

 

9- العلم يجعل صاحبه إماما للناس يأخذ بنواصيهم إلى مرضاة الله-عز وجل-:

 قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ (الأنعام: 83)      

وقال السعدي -رحمه الله- في تفسيره ص225: وقوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) أي: علا بها عليهم، وفَلَجَهُم بها.” نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء”، كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة، فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجات، خصوصا: العالمَ، العاملَ، المعلمَ، فإنه يجعله اللهُ إماماً للناسِ، بحسب حاله، تُرمقُ أفعاله، وتُقتفى آثارُه، ويُستضاء بنوره، ويُمشي بعلمه في ظُلمة ديجوره.

وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم) فلا يضع العلم والحكمة إلا في المحل اللائق بهما، وهو أعلم بذلك المحل وبما ينبغي له.

 

10- فضَّل الله تعالى بني آدمَ على غيرهمِ من خلقه بالعلمِ والمعرفةِ، فحازوا الكرامةَ والشرفَ:

 قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة: 30)

قال ابن رجب -رحمه الله- في مجموع رسائله”1/39″

ومما يدل على تفضيل العلم على العبادة: قصة آدم -عليه السلام-، فإن الله تعالى إنما أظهر فضله على الملائكة بالعلم، حيث علمه أسماء كل شيء، واعترفت الملائكة بالعجز عن معرفة ذلك، فلما أنبأهم آدم بالأسماء ظهر حينئذ فضله عليهم. أه

فقال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (البقره:31-32)

 

 

ويقول ابن القيم -رحمه الله- كما في كتابه مفتاح دار السعادة”1/228″:

 وبيان فضل العلم من هذه القصة من وجوه:

الأول: أنه سبحانه لما أراد إظهار تفضيل آدم وتمييزه وفضله ميزه عليهم بالعلم، فعلمه الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة، فقال:” أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ “(البقرة:31)، جاء في التفسير أنهم قالوا: لن يخلق ربنا خلقا هو أكرم عليه منا، فظنوا أنهم خير وأفضل من الخليفة الذي يجعله الله في الأرض، فلما امتحنهم بعلم ما علمه لهذا الخليفة أقروا بالعجز، وجهل ما لم يعلموه، فقالوا: سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (البقرة: 32) فحينئذ أظهر لهم فضل آدم بما خصه به من العلم، فقال: ﴿ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾ (البقرة: 33) فأقروا له بالفضل.

الثاني: أنه سبحانه جعل في آدم من صفات الكمال ما كان به أفضل من غيره من المخلوقات، وأراد سبحانه أن يظهر لملائكته فضله وشرفه، فأظهر لهم أحسن ما فيه وهو علمه، فدل على أن العلم أشرف ما في الإنسان، وأن فضله وشرفه إنما هو بالعلم. أه ملخصاً

 

11- العلم أول وأعظم نعمة أنعم الله بها على عباده:

 قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ (العلق:1-5)

يقول ابن كثير-رحمه الله- في تفسيره: 4/879″

 أول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال:(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)الَّذِي عَلَّمَ بالْقَلَمِ (4)ِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)

 وقال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: 20/119:

وقوله تعالى:(عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) قيل: الإنسان هنا: آدم عليه السلام، علمه أسماء كل شيء، حسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى:(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) (البقرة:31) فلم يبق شيء إلا وعلم سبحانه آدم اسمه بكل لغة، وذكره آدم للملائكة كما علمه، وبذلك ظهر فضله، وتبين قدره، وثبتت نبوته، وقامت حجة الله على الملائكة، وامتثلت الملائكة الأمر لما رأت من شرف الحال، ورأت من جلال القدرة، وسمعت من عظيم الأمر، ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف، وتناقلوه قوما عن قوم. وقيل: “الإنسان” هنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ودليله قوله تعالى:(وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (النساء: 113)، وعلى هذا فالمراد ب “علمك” المستقبل، فإن هذا من أوائل ما نزل.

وقيل: هو عام لقوله تعالى:(وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئا) (النحل: 78). أه

12- العلم من فضل الله علينا وكرمه، ولولاه لكان الناس أضل من الأنعام:

 وقال تعالى: وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيما (النساء: 113)

قال ابن القيم -رحمه الله- كما في ” مفتاح دار السعادة:1/227″

 عدد سبحانه نعمه وفضله على رسوله، وجعل من أجلها أن أتاه الله الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم، فقال تعالى:(وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيما). أه

13- العلم هو الوحيد التي طلب اللهُ من رسولَه التزود منه:

فقال تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (طه: 114)

قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره الجامع لأحكام القرآن:4/44″

فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد كما أمر أن يستزيده من العلم. أه

وقال ابن القيم -رحمه الله-كما في ” مفتاح دار السعادة:1/223″

إن الله –سبحانه- أمر نبيه أن يسأله مزيد العلم، وكفى بهذا شرفا للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه. أه

14- من أُوتِيَ العلم فقد أُوتي خيراً كثيراً، فالعلم مِنَّة من الله يُعطيها لمن يحب:

وقال تعالى: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (البقرة: 269)

قال في ” عمدة التفسير:2/181″: قوله تعالى:” يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ” قال ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن، ناسخِه ومنسوخِه، ومحكمِه ومتشابهِهِ، ومقدمِه ومؤخِره، وحلاله وحرامِه وأمثالِه.

وقال مجاهد:(يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ) ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن. وقال مالك: إنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله. أه مختصراً

وقال ابن القيم -رحمه الله- في” مفتاح دار السعادة:1/227″: شهد الله سبحانه لمن آتاه العلم بأنه قد آتاه خيرا كثيرا، فقال تعالى:(يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) قال ابن قتيبة والجمهور: الحكمة: إصابة الحق، والعمل به، وهي العلم النافع والعمل الصالح. أه

 

قال السعدي -رحمه الله- في تفسيره: ص95: والحكمة هي العلوم النافعة، والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وهذا أفضل العطايا، وأجل الهبات، ولهذا قال:(وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال، إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم، واستعد لنفع الخلق أعظم نفع في دينهم ودنياهم.

وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء في مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام. ولكن، ما يتذكر هذا الأمر العظيم، وما يعرف قدر هذا العطاء الجسيم (إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) وهم أهل العقول الوافية، والأحلام الكاملة، فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه، والضار فيتركونه. أه

 

وفي الآية السابقة يتبين لنا جلياً أن: العلم فضل ونعمة ومِنَّة من الله على من يشاء من عباده.

فالله تعالى لما ذكر نعمته على حبيبه ونبيه وخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيما ﴾ (النساء: 113)

 

 

وأثنى على خليله إبراهيم- عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ (النحل: 120-121)

والأمة هو الذي جمع صفات الكمال من العلم والعمل، والمقصود أنه مدح خليله بأربع صفات، كلها ترجع إلى العلم والعمل بموجبه وتعليمه ونشره، فعاد الكمال كله إلى العلم والعمل بموجبه ودعوة الناس إليه.

وقال في يوسف-عليه السلام-: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ (يوسف: 22)

وقال في موسى-عليه السلام-: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ (القصص: 14)

وقال في حق المسيح –عليه السلام-: ﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴾ (المائدة: 110)

وقال في حق داود–عليه السلام-: ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ (ص: 20)

وقال في حق الخضر صاحب موسى–عليه السلام-: ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾ (الكهف: 65)

وقال في داود وسليمان–عليهما السلام-: ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾ (الأنبياء: 79)

وقال في حق هذه الأمة: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ (آل عمران: 164)

فامتن عليهم سبحانه بأن علمهم بعد الجهل، وهداهم بعد الضلالة، ويالها من منة عظيمة فاقت المنن، وجلت أن يقدر العباد لها على ثمن. أه (باختصار من مفتاح دار السعادة لابن القيم -رحمه الله-)

 

 

15-العلم أساس صحة الاعتقادات والعبادات:

 قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور ﴾ (الملك: 2)

قال ابن القيم -رحمه الله-: في كتابه مفتاح دار السعادة:1/302″

إن العلم إمام العمل، وقائد له، والعمل تابع له ومؤتم به، فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديًا به فهو غير نافع لصاحبه، بل مضرة عليه، كما قال بعض السلف: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له، فالعمل الموافق للعلم هو المقبول، والمخالف له هو المردود.

فالعلم هو الميزان وهو المحك، قال تعالى:(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور “، قال الفضيل بن عياض: هو أخلص العمل وأصوبه، قالوا: يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، فالخالصُ أن يكون لله، والصواب أن يكونَ على السنة، وقد قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: 11). فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل الله من الأعمال سواه، وهو أن يكون موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرادا به وجه الله. ولا يتمكن العامل من الإتيان بعمل يجمع بين هذين الوصفين إلا بالعلم، فإنه إن لم يعلم ما جاء به الرسول لم يمكنه قصده، وإن لم يعرف معبودَه لم يمكنه إرادته وحده، فلولا العلم لما كان عمله مقبولًا، فالعلمُ هو الدليل على الإخلاص، وهو الدليل على المتابعة.

وقد قال الله تعالى:(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)، وأحسن ما قيل في تفسير الآية، أنه: إنما يتقبل عمل من اتقاه في ذلك العمل، وتقواه فيه أن يكون لوجهه على موافقة أمره، وهذا إنما يحصل بالعلم.

وإذا كان هذا منزل العلم وموقعه علم أنه أشرف شيء وأجله وأفضله، والله أعلم. أه

 

16- العلم نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله

فالجهاد نوعان: الأول: جهاد باليد واللسان، وهذا يشترك فيه الكثير. الثاني: جهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهم العلماء، وهو أفضل الجهادين، يعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه.

قال تعالى: ﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾ (الفرقان: 52)

يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في” زاد المعاد:3/58″ في حديثه عن الآية السابقة:

ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأما جهاد الحجة، فأمر به في مكة بقوله” وَجَاهِدْهُم بِهِ “أي: بالقرآن.” جِهَاداً كَبِيراً ” فهذه سورة مكية والجهاد فيها هو: التبليغ وجهاد الحجة. أه

فجهاد السيف الكل يحسنه، أما جهاد الحجة والتبليغ والبيان لا يحسنه إلا قلة من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكبر الجهادين، وهو أيضا جهاد المنافقين وقد قال رب العالمين في كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ (التوبة: 73) ومعلوم أن المنافقين كانوا في الظاهر مع المسلمين، فعلم أن جهادهم يكون بالحجة والقرآن”

وقال شيخ الإسلام–رحمه الله– كما في مجموع الفتاوى 18/284:

وهكذا قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (النحل: 110)

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
وفاة الوزير سلطان هاشم أحمد وزير الدفاع العراقي في زمن صدام حسين
التالي
أجمل موضوع تعبير عن حب الوطن

اترك تعليقاً