مقالات ونصوص متنوعة

#خاطرة

من رحم الألم يولد الأمل

الساعةُ التاسعة والنصف مساءً أجلسُ على شرفة المنزل الجو قارصٌ والهواءُ ينفحني ويلسعني لفرط برودته.
أرقبُ هذه المدينة أجدها تحتضرُ رغم عودة أهلها، إلى أنها تجثو على ركبتيها وتنتحب.
 يخيّل لي أننا حشونا حقائبنا أطنانًا من البؤس بدلًا من الملابس وما إن فتحناها حتى نفثت مافي بطنها من أسى وإستياء.
شبح الموت يجولُ أرجاء المدينة بمنجله الطويل يغتالُ أيّ ابتسامةٍ فرّت خلسةً، ليس هناك سوى شهيقٌ وزفيرٌ مخضّب بالترح.
تحت شرفة المنزل اعتدت استراق السمع لمجلس رجالٍ يتشاركون فناجين القهوة وتدخين السجائر ثم يمارسون لذّة إطلاق الآهات على طاولةٍ مستديرة، لايحركون ساكنًا هم فقط يتقيأون ما في جعبتهم ويعودون إلى منازلهم برغبةٍ أقل في البكاء.
يقول أحدهم: صباحًا ذهبتُ إلى السوق لشراء بعض الحاجيّات، ذهبت مرغمًا لم أكن أريد ذلك البتة، يفجعني رؤيةُ حال الأسواق بائسةً هكذا رغم أن عبق رمضان يعمُّ الأجواء.
من أين أبدأ رثائي أخبروني: أأحدثكم عن عربات الكعك المهترئة العتيقة التي عاصرت أزمانًا لم يشهدها صاحبها؟
 هذه العربات التي كنا نمقتُ قُبحها وافتقارها للجمال تتناقصُ وأخشى أن تنقرض، حتى الكعك الموضوع عليها حزينٌ لا رائحة لهُ، حاولتُ مرارًا تقفّي أثر تلك الروائح الشهيّة وإنعاش حاسة الشم لديّ لكنني لم أجدها، يبدو أن الكعك هذه المرة معجونٌ بدمع أحدهم بدلًامن الماء.
وماذا عن عربات السوس المفضلة لنا نحن معشرُ الرجال، لم تغرني هذه المرة لم تستطع أكياسُ السوس المصطفة إغوائي رغم أنه المفضل لديّ، تستسيغهُ حليماتي الذوقية وتنتشي فرحاً عند احتسائه، لا أعلم سبب عزوفي عن شرائه يمكن لأن بائعه لم يعد مثلما كان، إنه لا يزاولُ مهنتهُ برفع كأس السوس عاليًا ثم صبّها كما لو كان لاعب خفةٍ محترف، هو فقط جالسٌ شاردٌ قد تظن بأنّ أطرافهُ شلّت لفرط سكونه.
لقد لاحظت أمرًا أيضاً أنّ معظمنا يمتنعُ عن شرب السوس ربما لأن مرارتهُ هذه المرة تذكرنا بمرارة كؤوس العلقم التي تجرّعناها عندما هُجرنا قسرًا.
ثم سكت المتحدثُ فجأةً وشهق شهقةً أكادُ أجزم أن شلالًا من الدموع كان على وشك أن يفيض بعدها، لكنه أغلق جفنيه وردعها وكبحها أيضاً اليوم، وبات الصمتُ سيدُ المشهد.
فجأةً خرق ذلك الصمت صوت طفلةٍ من بعيد يقترب رويدًا رويدًا حتى ظهرت لنا بطلّتها الملائكيّة لا تتجاوزُ الثامنة من عمرها تهرولُ وتصيحُ “الله أكبر” كما لو أنها في ماراثون عالميّ تخشى خسارة الميدالية الذهبيّة.
وصلت تلك الجميلة مجلس الرجال وسألتهم: ما بكم لماذا كل هذا اليأس والقنوط؟! وجوهكم الشاحبة تجعلني أتخيل أن شريرًا ما قد حقنكم بمصل الحزن هكذا كما يحدثُ في أفلام الكرتون، ما بالكم رمضان زارنا ونحن في أمان الله وحفظه هذه فرصةٌ جديدة لنبعث أرواحنا من رُقادها هكذا تقولُ أمي، ثم أكملت مسيرتها وتركتهم غارقين في صمتٍ وحيرةٍ .
كيف لطفلةٍ في الثامنة أن تنشر البهجة وهي وليدةُ الحرب مسلوبةُ الطفولة؟! كيف لها ذلك وغيرها من الأطفال شاخت أرواحهم لهول ما شاهدوه!
بقيّ الجميعُ هكذا غارقًا في شروده حتى قال أحدهم: لولا المنطقُ والحقيقة كنت سأقولُ أن أم هذه الجميلة واظبت على تناول فيتامينات الأمل إلى جانب الكالسيوم والحديد حتى أنجبت ثمرةً بهيّةً حلوةً كهذه.

Leave your vote

Comments

0 comments

السابق
17 من اجمل الأدعية المريحة للقلب
التالي

اترك تعليقاً